مدخل للحضارة الإسلامية:
لقد اصبحت الصحوة الإسلاميّة حقيقة ملموسة، لا نقول في العالم الإسلامي فقط، بل في كل مكان يوجد فيه تجمّعات للمسلمين. في مقابل ذلك نجد اهتماماً متزايداً من قبل غير المسلمين للتعرف على حقيقة الإسلام. وتولّد عن هذا كله صور كثيرة للحوار مع الثقافات والحضارات الأخرى. وكان لا بد من التأثير المتبادل، وإن كانت الغلبة في التأثير تكون دائماً للحضارة الأقوى والأعرق. وهذا يعني أنّ فرصة الحضارة الإسلاميّة اليوم هي أفضل من الأمس، نظراً لما تتمتع به الحضارة الإسلاميّة من قوة وحيويّة.
نعلم أنّ هذا القول سيلتبس على البعض، لأنّ الحضارة الغربيّة تبدو في نظر الكثيرين الأقوى بما تمتلكه من علم ومال وتكنولوجيا. لذا كان لا بد من إلقاء الضوء على مفهوم الحضارة وركنها الأساسي، أي الثقافة، والتي هي سر القوة أو الضعف في أية حضارة.
الفيزياء والكيمياء والصيدلة... علوم موضوعها الواقع المادي. وهي علوم تتسم بالموضوعيّة إلى حد كبير، فهي غير متأثرة بوجهات النظر الخاصة للعلماء، ولا تختلف باختلاف عقائدهم ومذاهبهم. ويندر أن نلمس أثراً لأية عقيدة من العقائد في هذه العلوم، وعلى وجه الخصوص في المعطيات العلميّة التي هي حقائق. فعلم الرياضيات، مثلاً، أبعد ما يكون عن التأثر بعقائد وفلسفات الرياضيين، وذلك لأنّ عالم الرياضيّات هو عالم الحقائق، وعند الحقيقة تحيّد الثقافة وتحل الموضوعيّة مكان الذاتيّة.
شتان بين واقع علم الفيزياء قبل ألف سنة، وبين واقعه اليوم. فاتساع مساحات الحقيقة في معطيات هذا العلم يجعله غير متأثر بعقائد ومذاهب وخصوصيات الفيزيائيين. ويصدق هذا القول على علم الكيمياء أكثر مما يصدق على علم الفلك، لأنّ مساحات الحقيقة في علم الكيمياء أكبر منها في علم الفلك.
على الرُّغم من أنّ كل معرفة هي علم، إلا أنّ اصطلاح علم يغلب أن ُيطلق اليوم على علوم كالفيزياء والكيمياء والأحياء.. وغيرها من العلوم التي موضوعها المادة وبالتالي فهي عالميّة لا تخص حضارة بعينها، مما يجعلها تنتقل من أمة إلى أخرى من غير تحفّظ أو حساسيّة تجاهها. والملاحظ أنّ هذه العلوم لم تكن يوماً سبباً في اختلاف الأمم وصراعاتها وتحزبها وتحالفاتها، فالاختلاف في معطياتها لا يؤدّي إلى تنازع وأحقاد، ومن السهل أن يلتقي الناس في التصديق بحقائقها لأنّها حقائق، على النقيض تماماً من العلوم الإنسانيّة، التي يغلب أن تنتمي معطياتها إلى عالم الفرضيّات أو النظريّات.
لو بحثنا عن أسباب نشأة الأحلاف، كحلف الأطلسي وحلف وارسو السابق، مثلاً، لوجدنا أنّ الخلاف كان في أساسه عقدي ومذهبي، فهو اختلاف حول مفاهيم مثل مفهوم العدالة ومفهوم المساواة ومفهوم الحرية ... ولم يكن الاختلاف حول قانون فيزيائي، أو معادلة كيميائيّة، أو وصفة طبية ... بل إنّ بعض معطيات العلم تُعتبر أسراراً وقد تباع بأثمان باهظة، على خلاف المفاهيم الثقافيّة والحضاريّة التي يبذل من أجل ترويجها وتصديرها إلى الآخرين الشيء الكثير.
قلنا بأنّ العلوم الإنسانيّة تتأثر معطياتها بشكل كبير بعقائد العلماء ومذاهبهم وتراثهم ... ومن هنا فهي علوم لا تتسم بالموضوعيّة وبالتالي لا يسهل التقاء الناس حول مفاهيمها، ويؤدّي الاختلاف فيها إلى تنازع وتنافر وصراع. ويرجع ذلك إلى موضوع هذه العلوم، فهي قضايا مجردة ومعنويّة بعيدة عن المحسوس. من هنا فهي تتسم بالخصوصيّة، وسيبقى الأمر كذلك إلى أن تصبح نظرياتها حقائق، وهذا أمر يبدو، حتى الآن، بعيد المنال.
هذه العلوم النظرية التي تتأثر بوجهات النظر وتختلف باختلاف العقائد والفلسفات تسمى ثقافة. وأساس ثقافة كل أمة هو الجانب العقائدي والفلسفي. ويدخل في مفهوم الثقافة أيضاً كل ما أنتجه الإنسان في عالم المحسوس وكان في انتاجه ذلك متأثراً بفلسفة الأمة.
الحضارة والمدنيّة:
يمكن أن نُعرّف الحضارة تعريفاً مبسطاً بقولنا: الحضارة هي كل ما أنتجه الإنسان في عالم الفكر والمادة. ونقصد بالفكر العلم والثقافة، كالفيزياء والكيمياء والآداب وعلم التربية... ونقصد بالمادة الجانب المحسوس من الحضارة، أي ما يسمى بالمدنيّة، كالبيت والمصنع والثوب ... فالمدنيّة هي كل ما أنتجه الإنسان في عالم المادة. وإذا كانت المدنيّة متأثّرة بالثقافة تكون عندها مدنيّة خاصّة وتلحق بعالم الثقافة، وإلا فهي مدنيّة عامّة. من هنا تُعتبر الفنون وأنماط البناء والأزياء من الثقافة، فصناعة القماش، مثلاً، مدنية عامّة تقوم على أساس العلم العام، ولكن عندما يتحول هذا القماش إلى زي فإنّه يُصبح مدنيّة خاصّة، لأنّه يتأثر بوجهة النظر الخاصّة، أي بالثقافة. من هنا ندرك أنّ الأزياء ليست مجرد شكل، بل هي في جوهرها تُعبّر عن الثقافة التي تختبئ من وراء الشكل. لذلك نجد أنّ الإسلام ينهى عن التشبّه بأهل الفكر المنحرف حتى في أزيائهم. ويمكننا، على ضوء ما سلف، أن نقول بأنّ الزي الإسلامي هو الزي الذي ينبثق عن الثقافة الإسلاميّة، وبالتالي ينسجم مع قيم الإسلام ومبادئه. وعليه فإن شروط الزي الإسلامي يمكن أن تنطبق على آلاف الأزياء التي قد تختلف من شعب إلى أخر. وما يقال في الزي يقال أيضاً في أنماط البناء، فليس النمط الإسلامي في البناء هو ما كان أقواساً وقباباً، بل هو كل نمط يراعي قيم الإسلام ومبادئه، وينبثق عن الثقافة الإسلاميّة. وما قلناه في الزي ونمط البناء نقوله في الفنون، فالفن الذي ينضبط بضوابط الشريعة الإسلاميّة ويراعي القيم الإسلاميّة يعتبر فناً إسلامياً، وكذلك الأمر في الأدب والشعر.
من يتجول في شوارع روما القديمة، مثلاً، ويتأمل تماثيل القديسين والعظماء، التي تنتشر في الشوارع والساحات، يدرك بأنّ الحضارة التي أنجبت هذه المدينّة هي حضارة ذات جذور وثنيّة تقدّس الصنم وتُعلي من قيمة الوثن. والمتأمل لهذه التماثيل يدرك أيضاً بأنّ هذه الحضارة تُقدّم القيم الجماليّة على القيم الأخلاقيّة. أما من يسير في شوارع القدس القديمة، وساحات المسجد الأقصى المبارك، فإنّه لا بد أن يلاحظ أنّ الحضارة الإسلاميّة هي حضارة مُوَحِّدة، تُعلي من شأن الفكرة وتحط من قيمة الوثن. ويَلحظ أنها تُقدّم القيم الأخلاقيّة على القيم الجماليّة، ويلحظ ذلك بشكل أوضح في عالم الأزياء وعالم الفنون والآداب.
الثقافة إذن هي التي تعطي كل حضارة طعمها الخاص وبالتالي خصوصيتها. وهي أساس الالتقاء والاختلاف بين الحضارات والأمم. وعليه فيمكننا كمسلمين أن ننهل من معين العلم من كافة مصادره وموارده، أما في عالم الثقافة فلدينا ثقافة متميزة ومتفوقة على غيرها من الثقافات المعاصرة، أساسها التوحيد. وهي تُعلي من قيمة الفكرة وتنبذ الصنميّة والوثنيّة، وتُقدّم القيم الأخلاقيّة ولا تتنكر للقيم الجماليّة، بل تسمو بها. وهي ثقافة متوازنة ومتناسقة، إنسانيّة الأهداف والوسائل، تعلي من قيمة الإنسان، عالميّة الأهداف أخلاقيّة الوسائل.
إنّ قوة الحضارة الغربيّة المعاصرة تكمن في الجانب العلمي والتكنولوجي، في حين يتجلّى ضعفها في الجانب الثقافي وفي حضارتها التي تتدلى بالإنسان. وإنّ في انهيار الماركسيّة لمثل واضح على أنّ ثقافة الإنسان وقيمه ومبادئه هي الأساس في نهضة الحضارات أو تراجعها. في المقابل نجد أنّ الضعف في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة يكمن في الجانب العلمي والتكنولوجي الذي يسهل تداركه، ويساعدنا في ذلك عناصر القوة الكامنة في ثقافتنا المتفوقة ومبادئنا السامية.
هل استطاعت الثقافة الفرنسيّة الهشة والآثمة أن تصمد أمام الطهر المتمثل في قلّة من الفتيات المسلمات المعتزات بحضارتهن الإسلاميّة الأنيقة. إنّ الفتاة المسلمة التي تجلس على مقاعد الدراسة بجانب الفتاة الفرنسيّة وتنهل من معين العلم من غير تحفُّظ، هي نفسها التي تعلن بسلوكها وزيها بأنّ الحضارة الغربيّة لا تليق بالإنسان، فهي تنحطّ به في دركات الحيوانيّة والشهوانيّة، وتجعل من العبثيّة فلسفة له ومنهجاً وسلوكاً. هذه الفتاة المعتزة بحضارتها الإسلاميّة جعلت مراكز الرصد الفرنسيّة تُستنفر وتقرع أجراس الخطر، لإدراكها بأنّ الحضارة الأقوى هي التي ستسود في النهاية. وقد قادها شعورها بالخطر وهشاشة قيمها إلى التنكّر للحرية التي هي من أهم مقدّساتها. ومن المفارقات أن نجد ذلك يحدث في البلد الذي تغنّى طويلاً بقيم الحريّة والإخاء والمساواة، بل إنّه البلد الأوروبي الأول الذي رفع شعار الحرية بعد انتصار ما يسمّى بالثورة الفرنسيّة.
إنّ الجيوش الهمجيّة التي انتصرت على المسلمين في معركة بواتيه (بلاط الشهداء)، وحالت دون وصول رحمة الإسلام إلى الشعوب الأوروبيّة، هي نفسها التي تقف اليوم لتصد الشعوب الغربيّة عن معرفة الحق والحقيقة. ولكن المعركة اليوم تختلف في وسائلها ولم تعد تدور على الحدود المصطنعة بين البشر، بل هي تدور في عقر دار الاستعمار المتغطرس، وتدور في عواصم مثل لندن وباريس وواشنطن. وفي النهاية ستكون الغلبة للحضارة الأقوى، ولا داعي للخوف، لأنّ مثل هذا الانتصار هو في مصلحة الجميع.
خصائص الحضارة الإسلاميّة:
1. التوحيد الخالص: وتنعكس هذه الخصيصة على كل جوانب الحياة حتى في الفن والعمارة. فأنت تجد أنّ فن العمارة الإسلامية والفن الإسلامي بشكل عام قد ابتعد عن كل مظاهر الوثنيّة. ويكفي أن تدخل المسجد ثم تدخل أي معبد لأي دين آخر في الأرض لتدرك تفرُّد الحضارة الإسلاميّة بالتوحيد الخالص.
2. النزعة الإنسانيّة، والأفق العالمي: جاء في الآية 13 من سورة الحجرات:"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، إنّ الله عليم خبير".
وقد نجحت الحضارة الإسلاميّة في صهر الشعوب في بوتقة واحدة، وأفلحت في إزالة حواجز الجنس واللون واللغة.
3. الأخلاقيّة في التشريع والسلوك: وتلحظ ذلك في الفكر والأدب والفن والحكم ... وكل مظاهر الحياة الإسلاميّة.
4. الاستناد والتأسيس على العلم والمنهجيّة السويّة في البحث والتفكير: ويظهر أثر ذلك في النهوض العلمي والفكري الهائل في القرون الإسلامية الأولى، والذي لم يسبق له مثيل في تاريخ البشريّة. بل إنّ الواقع العلمي المعاصر في العالم الغربي يرجع في أسسه إلى المؤثرات الإسلامية، وعلى وجه الخصوص المنهجية العلمية في البحث والتفكير.
5. التسامح الديني: لقد قامت الحضارة الإسلاميّة على أساسٍ من الدين الحق. من هنا وجدناها تعامل الجميع على أساس من العدل والمساواة والرحمة. فكانت في ذلك الاستثناء الوحيد في تاريخ الحضارات البشريّة، بما فيها الحضارة الغربيّة المعاصرة، والتي ضاقت بالإسلام عندما بدأ المسلمون يرجعون إلى دينهم. فبلد كفرنسا – كما أشرنا سابقاً - لم تطق أن تسمح لعدد قليل من الفتيات المسلمات أن يحتشمن في لباسهنّ، تحت ستار أن ذلك يهدد الحضارة الغربيّة، فاصدرت القوانين التي تحظر على الفتاة المسلمة أن تتزيّا بالأزياء التي تُشعر بالطهر والعفاف.
حضارتنا من منظور غربي:
مقتطفات من كتاب: (شمس العرب تسطع على الغرب) للمستشرقة الألمانية زيغرد هونكة،
...وعلى خلاف ذلك كانت الحال في العالم الإسلامي. لقد اهتمت الدولة بتعليم الرعيّة، ولم تلبث أن جعلت من التربية واجباً ترعاه، فالأطفال من مختلف الطبقات يتعلمون التعليم الأولي مقابل مبالغ ضئيلة يقدر على دفعها الناس دون مشقّة. ومنذ أن بدأت الدولة تعيّن المعلمين للمدارس أمكن للفقراء أن يعلّموا أولادهم مجاناً، بل إنّ بعض البلدان العربيّة، مثل أسبانيا، قد جعلت التعليم للجميع مجانياً. وقد افتتح الحَكَمُ الثاني حوالي عام 965م في قرطبة سبعاً وعشرين مدرسة لأبناء الفقراء، بالإضافة إلى المدارس الثماني التي كانت فيها فعلاً. وفي القاهرة، أنشأ المنصور قلاوون مدرسة لليتامى ملحقة بالمستشفى المنصوري...
وكان الطلبة يتناولون طعامهم مجاناً، بل ويتقاضون مرتباً صغيراً، ويسكنون في الأدوار العليا في المدرسة دون مقابل. أما في المهاجع، فثمة المطبخ والمخازن والحمامات، وفي الطبقة الأرضيّة تلتف الفصول وقاعات المكتبة على شكل دائري خلف ممرات مظللة تُزينها الأعمدة، وفي الوسط فناء فسيح تتوسطه نافورة ماء. هنا يتعلم شباب العرب الطَّموح القرآن وقواعد اللغة والديانة والخطابة والأدب والتاريخ والجغرافيا والمنطق والفلك والرياضة. ويساهم الطلاب في المناقشات والمناظرات، ويعيد معهم دروسهم مساعدون من طلبة الصفوف المتقدمة أو من الخرّيجين. وتبدو هذه المدارس كخلايا النحل الدائبة النشاط، تُخرج للجميع شهداً حلواً فيه شفاء للناس، وتقدّم قادة للعلم والسياسة.....
أما الطريق الذي يسلكه الراغب في تعلّم فرع معين من العلوم، والذي يرغب الطالب أن يقوم هو بتدريسه يوماً من الأيام، فكان يبدأ في المساجد؛ فلم تكن المساجد مجرد أماكن تؤدّى فيها الصلوات فحسب، بل كانت منبراً للعلوم والمعارف.
كان الأستاذ يجلس ويلتف حوله طلبة في حلقة أبوابها مفتوحة لمن يشاء، رجلاً كان أم امرأة، ولكلٍّ الحق في سؤال الأستاذ أو مقاطعته معارضاً. وكان هذا النظام أكبر دافع للأساتذة يدفعهم دائماً للإعداد المتقن لدروسهم والتعمق فيها... لقد كان للمعلّم الحق في أن يُلقي ما شاء من محاضرات وأن يتخذ مجلس الأستاذ، ولكنّ الجمهور المثقف الواعي، بنقده الدائم ويقظته، كان يحمي تلك المجالس من أن يتسرّب إلى قيادتها مدعي علم أو مَن لم تنضج ثقافته وتكتمل.
لقد أتيح للطلاب دائماً فرصة الاستماع إلى الأساتذة الزائرين من كل أنحاء العالم العربي المترامي الأطراف. فلقد كان المتعلمون، في طريقهم السنوي إلى مكة لأداء فريضة الحج، يغتنمون الفرصة فيزورون مراكز الثقافة الإسلاميّة الواقعة على مقربة من طريقهم، فيستمعون لكبار الأساتذة في دمشق أو في بغداد. وهناك من أئمّة العلماء من زار القيروان، أو الجامع الأزهر بالقاهرة، أو الزيتونة بتونس، ليلقي المحاضرات، سواء كان هؤلاء العلماء في طريقهم إلى الحج أو مسافرين خصيصاً لهذا الغرض، يجوبون أنحاء العالم الإسلامي من سواحل بحر قزوين إلى سواحل الأطلسي. منهم المؤرخون والجغرافيّون، ومنهم علماء الحيوان والنبات والباحثون عن تراث الأدب القديم. وهم جميعاً، في حِلِّهم وترحالهم يفيدون ويستفيدون. ومن شِفاه هؤلاء وأولئك كانت الأفكار العلميّة الحديثة تنتشر في كل صوب، فما يدور اليوم في البصرة أو بغداد، تحمله الأنباء غداً إلى القاهرة أو قرطبة، حين لم يكن هناك صحف أو بريد.
وكم كان من السهل، أثناء نقل مثل تلك الأخبار من فم لآخر، أن تُسرق النظريات والاكتشافات، ولكن الأمانة العلميّة منعت هذا. فكان مألوفاً أن نسمع من أستاذ علاّمة:" يحيى بن عيسى أخبرني أنه سمع من أبي بكر البغدادي كيف شرح سعيد بن ياقوت في إحدى محاضراته أنّ... ".
... فمن يرغب من المعلّمين أن يحاضر عن كتاب لغيره، وجب عليه أن يحصل أولاً على إجازة من مؤلف هذا الكتاب. ولم يكن لأحد أن يأخذ آراء أستاذه، التي ألقاها شفوياً في إحدى محاضراته، ليُدرِّسها لتلاميذه دون أن يستأذن أستاذه صاحب الرأي نفسه. وكان راوي الشعر، مثلاً، تلميذاً للشاعر ينقل عنه أشعاره بموافقته واختياره،... ومن يحصل على هذا الإذن يملك حق تدريس ما صُرِّح له به. وبذلك كان حفظ حق المؤلف مَرعياً مقدساً، ورِثَته الجامعات الغربيّة عن المدارس العربيّة العليا.
لقد قدّم العرب للغرب نموذجاً حياً لإعداد المتعلمين لمهن الحياة العامة وللبحث العلمي، وذلك عن طريق جامعاتهم التي بدأت تزدهر منذ القرن التاسع، والتي جذبت إليها، منذ عهد البابا سلفستروس الثاني، عدداً من الغربيين من جانبي جبال البرانس، وظل هذا العدد يتزايد حتى صار تياراً فكرياً دائماً. لقد قدّمت تلك الجامعات، بدرجاتها العلمية وتقسيمها إلى كليات واهتمامها بطرق التدريس، للغرب أروع الأمثال. ولم تُقدّم هذا المظهر فقط بل وفّرت له كذلك مادّة الدراسة.
إنّ العرب هم الذين أنقذوا الحضارة الإغريقيّة من الزوال ونظّموها ورتّبوها ثم أهدوها إلى الغرب. ولم يقتصر دورهم على ذلك بل كانوا هم الذين أسسوا الطرق التجريبيّة في الكيمياء والطبيعة والحساب والجبر والجيولوجيا وحساب المثلثات وعلم الاجتماع. وبالإضافة إلى عدد لا يحصى من الاكتشافات والاختراعات الفرديّة في مختلف فروع العلوم، والتي سُرِق أغلبها ونسب لآخرين. وقدّم العرب أثمن هديّة وهي طريقة البحث العلمي الصحيح التي مهدت أمام الغرب الطريق لمعرفة أسرار الطبيعة وبالتالي تسلطه عليها اليوم.
ولعل أبرز رجال الغرب الأوائل الذين بهرتهم حضارة العرب ولم يخجلوا من الارتباط بهم هو القيصر الصقلي فردريك الثاني، أحد القياصرة الأعلام في التاريخ.
ولقد ساهمت الرحلات التي قام بها العلماء العرب، من أمثال ابن بطوطة، في زيادة المعلومات الجغرافيّة وصحّحت آراء خاطئة وأخطاء شائعة.
لقد غادر ابن بطوطة بلدته طنجة في رحلة علميّة محفوفة بالمغامرات والتجارب عاد منها إلى موطنه بعد أربعة وعشرين عاماً.
واستطاع الجغرافيون الفلكيون من أمثال البتاني وابن يونس والبيروني وابن سعيد وياقوت أن يتقدموا خطوات عما وصل إليه الأقدمون فاستطاعوا أن يحددوا بدقة متناهية الموقع الجغرافي للبلدان الهامّة بالنسبة إلى خطوط الطول والعرض....وإذا كان بطليموس قد أخطأ في رسوماتها في بضع درجات فإنّ العرب لم يتجاوزوا الواقع الصحيح بدقيقة أو دقيقتين. ولقد وحَّد الإدريسي الاتجاهين فربط بين الجغرافية الوصفيّة والجغرافية الرياضيّة الفلكيّة.
وفي فرع آخر من الجغرافيا الطبيعيّة والجيولوجيّة أعطى ابن سينا والبيروني أمثلة صحيحة تماماً ولها قيمتها العلمية... ولقد كتب ابن سينا حوالي 1000 ميلاديّة يقول: ترجع الجبال في أصلها ونشأتها إلى عاملين، فإما أن تنشأ نتيجة انحناء في القشرة الأرضيّة بسبب حركات عنيفة في باطن الأرض، وإما أن يكون أثر الماء هو سبب نشأتها عندما يتخذ الماء لنفسه طريقاً وأودية. وطبقات الصخور وأنواعها بعضها ليّن وبعضها صلب. و تؤثر الرياح والماء في النوع الأول ... والماء هو العامل الأساسي في هذه التأثيرات ويمكن الاستدلال على ذلك من وجود بقايا متحجرة من حيوانات مائية فوق كثير من الجبال.
وتقول هونكة عند الحديث عن المكتبات:
الشغف بالكتب:
لقد أقبل العرب على اقتناء الكتب إقبالاً منقطع النظير يشبه، إلى حد كبير شغف الناس في عصرنا هذا باقتناء السيارات والثلاجات وأجهزة التلفزيون، فأصبحت الكتب هي مطلب كل من يستطيع تحمُّل نفقات الحصول عليها، وأقبل الناس في البلدان العربيّة على اقتنائها بلهفة متزايدة لم يعرف لها التاريخ من قبل مثيلاً.
وكما يقاس ثراء الناس اليوم بمدى ما يملكون من عربات فاخرة، مثلاً، قدَّر الناس - في ذلك العصر الممتد من القرن التاسع حتى القرن الثالث عشر – الثراء بمدى ما يُقتنى من كتب أو مخطوطات.
ولم يكن الخليفة، بتشجيع من وزرائه من البرامكة، ليهدي الجماهير هدية تتفق مع مزاجهم أجمل من إنشائه مكتبة ضخمة في بغداد عرفت بدار الحكمة.
ونمت دور الكتب في كل مكان نمو العشب في الأرض الطيبة. ففي عام 891م يحصي مسافر عدد دور الكتب العامة في بغداد بأكثر من مئة. وبدأت كل مدينة تبني لها داراً للكتب يستطيع عمرو أو زيد من الناس استعارة ما يشاء منها، وأن يجلس في قاعات المطالعة ليقرأ ما يريد، كما ويجتمع المترجمون والمؤلفون في قاعات خصصت لهم، يتجادلون ويتناقشون كما يحدث اليوم في أرقى الأندية العلميّة.
فمكتبة صغيرة، كمكتبة النجف في العراق، كانت تحوي في القرن العاشر أربعين ألف مجلد، بينما لم تحوِ أديرة الغرب سوى اثني عشر كتاباً ربطت بالسلاسل، خشية ضياعها. ويحتاج تصنيف الكتب الموجودة في مدينة الريّ إلى عشرة فهارس كبيرة. وكان لكل مسجد مكتبته الخاصة، بل إنّه كان لكل مستشفى يستقبل زواره قاعة فسيحة صُفّت على رفوفها الكتب الطبيّة الحديثة الصدور، تباع لتكون مادة لدراسة الطلاب ومرجعاً للأطباء... ولقد جمع ناصر الدين الطوسي لمرصده في مراغة 400.000 مخطوطة.
وحذا حذو الخليفة في بغداد كل الأمراء العرب في مختلف أنحاء العالم العربي؛ فأربت، مثلاً، مكتبة أمير عربي في الجنوب على 100.000 مجلد. وروي أنه لما شفي سلطان بخارى، محمد المنصور، من مرضه العضال على يد ابن سينا، وهو بعد فتى لم يتجاوز الثامنة عشرة، كافأه السلطان على ذلك بأن سمح له أن يختار من مكتبة قصره ما يحتاج إليه من الكتب لدراسته، وكانت كتبها تشغل جزءاً كبيراً من القصر، وقد رُتبت حسب موضوعاتها. ويكتب ابن سينا عن ذلك فيقول:" وهناك رأيتُ كتباً لم يسمع أغلب الناس حتى بأسمائها".
ولا يستطيع أحد أن يقارن نفسه بالخليفة العزيز في القاهرة، حتى خليفة قرطبة، الذي بعث رجاله وسماسرته في كل أنحاء الشرق ليجلبوا له الكتب فيزيد روائع مكتبته، أنّى له أن يصل إلى ما فعله العزيز؟! لقد حوت مكتبة العزيز 1.600.000 مجلد، فكانت بذلك أجمل وأكمل دار للكتب ضمّت 6500 مخطوطة في الرياضيات، و 18.000 مخطوطة في الفلسفة. ولم يمنع هذا قط ابنه من بعده، حين اعتلى العرش، من أن يبني مكتبة ضخمة فيها ثماني عشرة قاعة للمطالعة إلى جوار المكتبة القديمة.
وكذلك فعل الوزراء ورجال الدولة، فلقد ترك الوزير المهلبي، مثلاً، عند وفاته عام 963م مجموعة من 117.000 مجلد، واستطاع زميله ابن عبّاد أن يجمع في مكتبته 206.000 كتاب، وجمع أحد قضاته 1.050.000 مجلد. ولما كانت هذه الأرقام الضخمة قد حسبت بالتقريب وبولغ في بعضها، فإنّ هذه المبالغة نفسها لهي أكبر دليل على مفاخرتهم بذلك وسرورهم بكل جهد يبذل في هذا السبيل. وليس أدل على هذا مما نقرأه من أنّ بعض الوزراء لم يكن يخرج إلى رحلة إلا ومعه حمولة ثلاثين جملاً من الكتب تصحب ركبه.
وتقول هونكة تحت عنوان: نُصُب تذكارية للعبقرية العربية:
وصادف العرب في تجاربهم الكيميائيّة العديدة كثيراً من التركيبات التي كان لها قوة شفائيّة علاجيّة، الأمر الذي حدا بالرازي إلى دفع الكيمياء في خدمة الطب، وبهذا حقق فتحاً علمياً آخر إلى جانب فتوحاته العديدة... وقد اتضح للرازي أنّ بوسعه أن يستحضر عقاقير جديدة في عملياته الكيميائيّة، من تقطير وتصعيد لمواد طبيعيّة أصلاً، فرفع علم الكيمياء إلى مستوى علم النبات نفسه ودأب دوماً على تجربة العقاقير الجديدة على الحيوانات ليرى تاثيرها فيحصي منافعها وضررها... ودرس خصائص الزئبق ومركباته واستحضرها واستعملها كعقار ضد بعض الأمراض. واهتم بالأفيون والحشيش وجعله صالحاً للاستعمال في عملية التخدير. وثمة دواء أوجده الرازي وهو لا يزال يحمل الاسم التالي في فرنسا (Blanc- Rasis) حرّفته العامّة إلى(blanc Raisin) أي العنب الأبيض.
ويدين الطب لعلم الكيمياء العربي بسلسلة من أشكال العقاقير كالشراب الحلو (Sirup) المستخرج من نبات الكرنب مع السكر (Zucker) الذي مثّل دوراً هاماً في تاريخ الطب، والجلاب (julep) وهو شراب حلو المذاق منعش، أقل كثافة من الشراب (Sirup) والفاكهة المطبوخة بالعسل أو السكر.
وقد فكّر الرازي أيضاً بالمرضى الذين يشكون حساسية مرهفة شديدة ويعجزون عن تناول الأدوية، فكان أن غلّف حبات الـ Roob المُرة بغلاف من السكر ومزج عصير الفاكهة بالسكر أو العسل أو غير ذلك، حتى تذهب مرارتها وتزداد كثافتها، فتصب على بلاطة من المرمر وبعد تجمدها كانت تقطع إلى أجزاء صغيرة. واما العادة المتبعة اليوم في تغليف حبات الأدوية بالذهب أو الفضة فهو تقليد يرجع فضله إلى ابن سينا الذي وصف الذهب والفضة كأدوية مفيدة للقلب ولجأ إلى تغليف الحبوب بهما.
وبرع العرب كل البراعة بما قدّموه من أنواع الضمادات والمساحيق والمراهم واللزوق وغيرها، .. اهتمامهم بمعالجة الخراجات والدمامل وتطبيخها ثم شقها، ومداواة كثير من الأمراض الجلديّة والجروح، وسعوا إلى تخفيف آلام هذه الأخيرة واجتناب تقيّحها مستعملين في ذلك...والمواد المضادة للميكروبات (Antibiotica). واستعملوا كذلك القهوة المحروقة لمعالجة التهابات عديدة، وقد أخذ عنهم عالم كيميائي ألماني، قبل ثلاثين سنة، استعمال هذه (القهوة المفحمة) التي سماها بنفسه (منقذة الحياة) وحملها معه إلى ألمانيا حيث استعملت للالتهابات المزمنة وقدمت نتائج باهرة مذهلة. وقد وفّق العرب أيضاً إلى صنع مراهم دبقة تجف مع الوقت (كشماعات) الجروح الحديثة.ا.هـ
الحضارة الإسلاميّة من منظور إسلامي:
مقتطفات من كتاب: (من روائع حضارتنا) للدكتور مصطفى السباعي
1. المؤسسات الخيريّة:
ومن المؤسسات الخيريّة الخانات والفنادق للمسافرين المنقطعين وغيرهم من ذوي الفقر. ومنها التكايا والزوايا التي ينقطع فيها من شاء لعبادة الله عز وجل، ومنها بناء بيوت خاصة للفقراء يسكنها من لا يجد ما يشتري به أو يستأجر داراً، ومنها السقايا أي تسبيل الماء في الطرقات العامة للناس جميعاً، ومنها المطاعم الشعبيّة التي كان يفرّق فيها الطعام، من خبز ولحم وحساء وحلوى. ولا يزال عهدنا قريباً بهذا النوع في كل من تكيّة السلطان سليم وتكيّة الشيخ محيي الدين بدمشق، ومنها بيوت للحجاج في مكة ينزلونها حين يفدون إلى بيت الله الحرام، وقد كثرت هذه البيوت حتى عمّت أرض مكة كلها، وأفتى بعض الفقهاء ببطلان إجارة بيوت مكة في أيام الحج لأنّها كلها موقوفة على الحجاج. ومنها حفر الآبار في الفلوات لسقي الماشية والزروع والمسافرين، فقد كانت كثيرة جداً بين بغداد ومكة، وبين دمشق والمدينة، وبين عواصم البلاد الإسلاميّة ومدنها وقراها، حتى قلّ أن يتعرض المسافرون – في تلك الأيام – لخطر العطش. ومنها أمكنة المرابطة على الثغور لمواجهة خطر الغزو الأجنبي على البلاد، فقد كانت هنالك مؤسسات خاصة بالمرابطين في سبيل الله، يجد فيها المجاهدون كل ما يحتاجون إليه من سلاح وذخيرة وطعام وشراب، وكان لها أثر كبير في صد غزوات الروم أيام العباسيين، وصد غزوات الغربيين في الحروب الصليبية عن بلاد الشام ومصر. ويتبع ذلك وقف الخيول والسيوف والنبال وأدوات الجهاد على المقاتلين في سبيل الله عزوجل، وقد كان لذلك أثر كبير في رواج الصناعة الحربيّة وقيام مصانع كبيرة لها، حتى كان الغربيون في الحروب الصليبية، يفدون إلى بلادنا – أيام الهدنة – ليشتروا منا السلاح، وكان العلماء يفتون بتحريم بيعه للأعداء. فانظر كيف انقلب الأمر الآن فأصبحنا عالة على الغربيين في السلاح لا يسمحون لنا به إلا بشروط تقضي على كرامتنا واستقلالنا
ويتبع ذلك أوقاف خاصة يُعطى ريعها لمن يريد الجهاد، وللجيش المحارب حين تعجز الدولة عن الإنفاق على كل أفراده. وبذلك كان سبيل الجهاد ميسراً لكل مناضل يودُّ أن يبيع حياته في سبيل الله ليشتري بها جنة عرضها السموات والأرض ...
ومن المؤسسات الاجتماعيّة ما كانت وقفاً لإصلاح الطرقات والقناطر والجسور، ومنها ما كانت للمقابر حيث يتبرع المسلم بالأرض الواسعة لتكون مقبرة عامة. ومنها ما كان لشراء أكفان الموتى الفقراء وتجهيزهم ودفنهم.
أما المؤسسات الخيريّة لإقامة التكافل الاجتماعي، فقد كانت عجباً من العجب، فهناك مؤسسات للقطاء واليتامى لرعايتهم، ومؤسسات للمقعدين وللعميان والعجزة، يعيشون فيها موفوري الكرامة، لهم كل ما يحتاجون من سكن وغذاء ولباس وتعليم أيضاً.
وهنالك مؤسسات لتحسين أحوال المساجين ورفع مستواهم وتغذيتهم بالغذاء الواجب لصيانة صحتهم، ومؤسسات لإمداد العميان والمقعدين بمن يقودهم ويخدمهم. ومؤسسات لتزويج الشباب والفتيات العزّاب ممن تضيق أيديهم أو أيدي أوليائهم عن نفقات الزواج وتقديم المهور ... فما أروع هذه العاطفة وما أحوجنا إليها اليوم!
ومنها مؤسسات لإمداد الأمهات بالحليب والسكر... وقد كان من مَبرّات صلاح الدين أنّه جعل في أحد أبواب القلعة – الباقية حتى الآن في دمشق – ميزاباً يسيل منه الحليب، وميزاباً آخر يسيل منه الماء المذاب فيه السكر، تأتي إليه الأمهات يومين في كل أسبوع ليأخذن لأطفالهن وأولادهن ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر ...
ومن أطرف المؤسسات الخيريّة وقف الزبادي للأولاد الذين يكسرون الزبادي وهم في طريقهم إلى البيت، فيأتون إلى هذه المؤسسة ليأخذوا زبادي جديدة بدلاً من المكسورة، ثم يرجعوا إلى أهليهم وكأنّهم لم يصنعوا شيئاً.
وآخر ما نذكره من هذه المؤسسات، المؤسسات التي أقيمت لعلاج الحيوانات المريضة، أو لإطعامها، أو لرعيها حين عجزها، كما هو شأن المرج
نحنُ والحضارة الغربيّة
بعد هزيمة الصليبيين في حطّين وما تلاها رجع الأوروبيّون إلى أوطانهم وقد أكسبهم الاحتكاك بالمسلمين الشيء الكثير على المستوى المعرفي والقيمي، وكان تأثّرهم الأكبر بمسلمي الأندلس، حيث تتلمذ الغربيون في مدارسها وجامعاتها. وفي الوقت الذي بدأ فيه الغربيون ينهضون نتيجة تأثرهم بالمسلمين كان المسلمون قد بدأوا يتراجعون شيئاً فشيئا،ً وبلغ التدهور مداه بدخول المسلمين ما سمي بمرحلة الانحطاط، أي مرحلة التخلف والأميّة.
وشاء الله تعالى أن يكون اللقاء بالغربيين مرة أخرى وقد انقلبت الموازين، فالغربي متنور ومنظم وقوي وغني، والمسلم أمي ضعيف فقير ومتخلف. وشكّل هذا اللقاء صدمة للمجتمعات العربيّة والإسلاميّة، فلم يكن المسلم يشعر بتخلفه حتى أبصر الغربي المتسلح بالعلم والتكنولوجيا، ولم يكن يشعر بضعفه حتى وقع فريسة للاستعمار الغربي. وكان هذا الواقع الجديد هو التحدي الكبير الذي لم يواجه العالم الإسلامي مثيلاً له عبر تاريخه العريق.
ردود أفعال:
اختلفت ردود أفعال الناس في العالم الإسلامي على هذا التحدي الخطير، واختلف موقفهم من الحضارة الغربيّة، ويمكن حصر هذه المواقف في ثلاثة:
الموقف الأول: موقف المنبهرين بالحضارة الغربيّة، الذين حملوا لواء الدعوة إلى تقليد الغربيين وأخذ حضارتهم بحلوها ومرها خيرها وشرها. وكان لأمثال هؤلاء تأثير كبير في عالم الفكر والإعلام والاقتصاد والسياسة.. ولا يزال العالم الإسلامي يعاني من هؤلاء، حيث عملوا على إلحاق المسلمين بالغرب، وخرجوا على قيم الأمة ومبادئها، بل وحاربوا كل من يعمل من أجل عودة الأمّة إلى ذاتها الحضاريّة.
نعم، لقد نجح هؤلاء لفترة من الزمن، وساعد في نجاحهم حقيقة أنّ الضعيف يتأثر بالقوي، والفقير يتأثر بالغني، والجاهل يتأثر بالعالم. وكانت لهؤلاء صولات وجولات، ولا يزالون يؤثرون في حياتنا الفكريّة والاقتصاديّة والسياسيّة.
الموقف الثاني: وهو نقيض الموقف الأول، فهؤلاء رفضوا الحضارة الغربية بخيرها وشرها حلوها ومرها، وتقوقعوا على أنفسهم، وكانوا دعاة للتمسك بكل قديم، ورفض كل جديد يأتي من جهة الغربيين. وساد مثل هذا الموقف في بلد كأفغانستان واليمن.. وكان من نتيجته أن بقي أصحابه في تخلفهم وأميتهم، وتجاوَزَهم قطار التقدّم. في المقابل استطاع هؤلاء بتقوقعهم أن يحفظوا أنفسهم من مفاسد الغرب وضلالاته، فلم يأخذوا من خيره ولم يتأثروا بشره.
الموقف الثالث: وهو الموقف الداعي إلى الاستفادة من إيجابيات الحضارة الغربيّة وتوقي سلبياتها. وقد حضّ أصحاب هذا الموقف على مقاومة التبعيّة للغربي، كما ودعوا إلى عدم التقوقع وإلى ضرورة الانفتاح على كل ما هو إيجابي. وقد تميّز هؤلاء بقدرتهم على نقد الحضارة الغربيّة وإبراز مفاسدها، وخاضوا معاركهم الإعلاميّة والفكريّة والسياسيّة... مع أصحاب الموقف الداعي إلى تغريب الأمة الإسلاميّة وإلحاقها بالحضارة الغربيّة. ولم تكن هذه معركتهم الوحيدة، فقد خاضوا معارك فكريّة مع دعاة التقوقع أيضاً.
نتائج:
نتج عن هذه المواقف المتعارضة أمور منها:
1. ساعد موقف المتقوقعين على الحفاظ على تراث الأمة وذاتها الحضاريّة في الفترة التي كانت فيها الأمّة متخلفة وغير قادرة على المواجهة الفكريّة.
2. استفز موقف دعاة التغرب علماء الأمّة ومفكريها، فنهضوا ليذودوا عن فكر الأمة وقيمها، فأكسبهم هذا الصراع الوعي الكافي لنقد الحضارة الغربيّة ولتقديم الإسلام في صيغة وثوب معاصرين.
3. ساعد الصراع الذي قام بين المواقف الثلاثة على إبصار السلبيّات والإيجابيات في تراث الأمة الإسلاميّة، وساهم في تصحيح وتصويب الأخطاء. كما ساعد في إبصار سلبيات الحضارة الغربيّة وإيجابياتها.
4. إذا كان موقف المتقوقعين يحافظ على الذات من غير قدرة على التأثير، مع احتمال الانسحاق تحت عجلة التقدم، فإنّ موقف دعاة التغريب وجد له تربة خصبة في ظل الأميّة والتخلف والفقر والفوضى، إلا أنّه موقف غير قابل للاستمرار، لتناقضه مع فكر الأمة وأصالتها. ولا شك أنّ قوة تأثير الحضارة الإسلاميّة يجعل من هزيمة الفكر التغريبي مسألة وقت، ويجعل من نجاح الموقف الثالث (الموقف النقدي) قضية حتميّة بإذن الله تعالى. والمراقب لمسيرة المجتمعات الإسلاميّة اليوم يدرك أنّ الفكر التغريبي يعاني من هزيمة منكرة جعلت الغرب يخرج عن طوره فيحاول استخدام القوة العسكريّة والاقتصاديّة لفرض مبادئه وقيمه، معلناً بذلك عن هزيمته وإفلاسه، ومبشراً بانتصار الفكر النقدي الوسطي الذي رفض التقوقع ورفض التابعيّة والانسياق، واعتز بذاته الحضاريّة، ولم يمنعه اعتزازه هذا من أن يمارس النقد الذاتي المؤدي إلى التصحيح والتصويب. ولم تمنعه أصالته من الانفتاح على الآخر، لأنّه يملك المقياس، ويملك الضوابط التي تحفظه من التأثر.