مدخل للفكر الإسلامي
يمكن أن نعرّف الفكر بأنّه: إمعان النظر والتأمل في الأشياء الحسيّة والمعنويّة من أجل الوصول إلى حقيقتها.
الحسيّة: مثل أن نمعن النظر لمعرفة أسباب صدأ عنصر الحديد.
المعنويّة: مثل أن نمعن النظر لمعرفة أسباب سقوط الدول والإمبراطوريات. ويغلب أن يُطلق على عمليّة إمعان النظر اسم (التّفكر)، وعلى نتاج هذه العملية اسم (الفكر).
لماذا هو إسلامي؟
لأنّه ناتج عن إمعان النظر في مصادر الإسلام من قِبل المسلمين عبر العصور المختلفة. فهو الفكر الذي أتى نتيجة تفاعل المسلمين عبر العصور مع الإسلام؛ كالفقه، وعلم أصول الفقه، وعلم أصول الحديث، وعلم أصول الدين (العقيدة) ، وعلم الأخلاق، وعلم التربية، وعلم التفسير ... الخ.
خلاصة:
يكون الفكر إسلامياً في الحالات الآتية:
1. عندما يكون المفكّر مؤمناً بالإسلام ومقتنعاً بمبادئه.
2. عندما يُعمِل المسلمُ فكره في المصادر الإسلاميّة، ويكون نتاجه الفكري مؤسسا على هذه المصادر، والتي هي الأصول.
3. عندما يُعمِل المسلم فكره في المصادر غيرالإسلاميّة، ولكنه يستند في تقييمه وأحكامه ومواقفه إلى أساسيات الإسلام عقيدة وشريعة.
وعليه لا يكون فهم المستشرقين الدارسين للإسلام، ولا استنباطاتهم، ولا أحكامهم، فكراً إسلامياً. وكذلك لا يعتبر فكر المسلمين المتاثرين بأصول الفلسفات غير الإسلاميّة فكراً إسلامياً.
قضايا للنقاش:
هل الفكر الإسلامي معصوم من الخطأ؟
هل يمكن مراجعة هذا الفكر وانتقاده؟
إذا جازت المراجعة فعلى أي أساس ينبغي أن تتم؟
من أسس الفكر الإسلامي:
الأساس الأول: التوحيد.
أ. توحيد الربوبيّة: فهو وحده، سبحانه، الخالق الرازق الواهب... والمربّي لعباده.
ب. توحيد الألوهية: لأنّه وحده الرب الحقيقي فينبغي أن يكون وحده المعبود (المألوه).
ج. توحيد الأسماء والصفات:
فالله هو وحده المتصف بصفات الكمال. والمسلم يُثبت لله هذه الصفات وينزهه عن كل نقص، ويؤمن بأسماء الله وصفاته التي ثبتت بالقرآن والسنّة، من غير تعطيل ولا تكييف ولا تشبيه. ولا نَصفُ الله تعالى إلا بما وصف به نفسه.
التعطيل: نفي الصفات، كما يفعل المعتزلة؛ فهم ينفون أن تكون لله صفة سمع أو صفة إبصار غير الذات. ويقولون: إنّ الله تعالى بصير بذاته وسميع بذاته. ومن هنا نشأت مسألة خلق القرآن عند المعتزلة؛ فقد زعموا أنّ الله تعالى لا يتكلم
وإنما يخلق الكلام، فالكلام الذي سمعه موسى، عليه السلام، مثلاً، لم يتكلم به الله تعالى، وإنما خلقه الله تعالى في الشجرة.
التكييف والتشبيه: إثبات كيفيّة للصفة، وتشبيهها بصفات المخلوقين.
جاء في الآية 11 من سورة الشورى: "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"؛ فالخالق سبحانه منزه عن المثيل، وهو متصف بصفات الكمال.
بعض مآخذ القرآن الكريم على أهل الكتاب في مسألة التوحيد:
جاء في الآية 17 من سورة المائدة:" لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم ...". وجاء في الآية 72 من سورة المائدة:" لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم، وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربّي وربكم، إنّه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنّة، ومأواه النار وما للظالمين من أنصار". وجاء في الآية 73 من سورة المائدة:" لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة، وما من إله إلا إله واحد ...". وجاء في الآية 30 من سورة التوبة:" وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، ذلك قولهم بأفواههم، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ...". وجاء في الآية 31 من سورة التوبة:" اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيحَ ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً، لا إله إلا هو، سبحانه عمّا يشركون".
الأساس الثاني: ربّانية المصدر والقيم:
عندما يكون المصدر هو الرّب فإن ذلك يعني:
. انسجام هذا الفكر مع الفطرة؛ لأنّ الذي خلق هو الذي أنزل. وأي خروج على مبادئ الدين يعني التناقض مع الخلق، مما يؤدي إلى حدوث الخلل، كما هو الأمر، مع الفارق في التمثيل، عندما نخالف أوامر الصانع الذي أرسل إلينا بما يُسمى بـ(الكاتالوج)، فكيف عندما يكون الصانع هو الخالق، الكامل في قدرته وعلمه وحكمته؟!
2. استناد هذا الفكر إلى الحقيقة المطلقة، مما يجعله الأقرب إلى الصواب، والأبعد عن الخطأ والزلل.
3. قوة فعل هذا الفكر في المجتمعات، لاستناده إلى الإيمان، حيث لا سلطة على الضمير إلا للدين. وواقع الناس يثبت أنّ الإيمان بالله هو من أقوى دوافع الالتزام على مستوى مجموع البشر.
الأساس الثالث: وحدة الدنيا والآخرة.
فصلاح دنيا المرء يؤدّي إلى صلاح آخرته، وصلاح آخرته مشروط بصلاح دنياه. وهذا يعني أنّ الإيمان بالآخرة يؤدّي إلى صلاح الدنيا. وفي الوقت الذي يكفر فيه الإنسان بالآخرة فإنّه يفقد مسوّغ وجوده في الدنيا، ولا يجد نفسه بعد ذلك ملزماً بالقوانين والقيم والأخلاق، فتصبح المصلحة الفرديّة هي المحرّك والمسوّغ والقيمة والمبدأ. وواقع المجتمعات الماديّة يثبت ذلك؛ فأنت ترى أنّ الفلسفة النفعيّة هي الفلسفة التي يقوم على أساسها واقع هذه المجتمعات.
مثال توضيحي:
عندما ينقطع التيار الكهربائي عن التلفاز فإنّ كل قطعة في هذا التلفاز تفقد معناها ووظيفتها، وكذلك الأمر في حياة البشر عندما تنقطع الصلة بالدين، وعلى وجه الخصوص بالآخرة، فكل شيء يفقد عندها معناه، حتى الحياة، وتصبح القيم والمبادئ في مهب الريح، لأنها تفقد سلطتها على الضمير، الذي يشكّل مرجعيّة عليا لها. واليوم تقف الفلسفات الماديّة عاجزة عن إقناعنا بمسوّغ وهدفيّة الحياة بكل ما فيها.
قضية للنقاش:
إنسان مادي، لا يؤمن بالآخرة، ويريد أن ينتحر، كيف يمكن أن تقنعه بعدم الانتحار من غير أن تستخدم الدين وسيلة للإقناع؟!
من خصائص ومزايا الإسلام:
أولاً: الشمول والكمال
فهو شامل لجميع نواحي الحياة. ومن هنا يلاحظ المسلم أنّ في الإسلام إجابة عن كل سؤال، أي أنّ هناك حكماً شرعياً لكل حركة وسكنة.
مثال:
إذا أراد المسلم أن يتزوج يجد أنّ هناك أحكاماً للخطبة، ثم أحكاماً للزواج. وإذا حملت زوجته يجد أنّ هناك أحكاماً للجنين، ثمّ أحكاماً للمولود، ثم هناك أحكام للحضانة والرضاع، وهناك تفصيل لأحكام تربية الأولاد، وتفصيل لأحكام النفقات، وأحكام الأسرة. وفي حالة اختلاف الزوجين هناك أحكام للقضاء، فإذا رغبا في الانفصال فهناك أحكام للطلاق، فإذا مات أحدهما فهناك أحكام للجنائز، ثم هناك تفصيل للميراث ... وهكذا إلى درجة أنك لا تصل إلى طريق مسدود. فهذا هو الشمول والكمال.
ثانياً: الواقعيّة
يُقسم الدين إلى عقيدة وشريعة؛ أما العقيدة فهي الجانب النظري الإخباري من الدين. وأمّا الشريعة فهي الجانب العملي منه. وعليه فواقعيّة العقيدة تعني مطابقة الفكرة للواقع، أي صدقيّتها. ومن معاني واقعيّة العقيدة الإسلاميّة أنّها تراعي فطرة الإنسان وقدراته العقلية فلم تكلفه بما لا يطيق عقله. من هنا نجد أنّ أساسيات العقيدة الإسلامية تُدرك ببساطة من قِبل الصغير والكبير، والعالم وغير العالم، ولا يضطر المسلم إلى أن يسلك متاهات الفلسفة ليقيم الدليل على صدق عقيدته؛ فالله واحد سميع عليم بصير...الخ.
أما واقعيّة الشريعة، فمن معانيها أنها تنطلق في معالجاتها من فطرة الإنسان، على نقيض المدارس المثاليّة التي تكلف الإنسان ما لا يطيق، وعلى نقيض المدارس الماديّة العبثيّة التي لا تراعي خَلق الإنسان وخصائصه وفطرته.
فعنما قسّم الإسلام الميراث، مثلاً، راعى الفطرة وواقع الإنسان، على نقيض ما نجده اليوم في المجتمعات العلمانية. وعندما شرّع الطلاق راعى الفطرة وواقع الإنسان أيضاً، على نقيض الشرائع التي حظرت الطلاق بحجة المحافظة على الأسرة.
ومما يجدر التنبيه إليه أنّ الإسلام جاء ليغيّر من الواقع السلبي. من هنا نجد أنّ الإسلام يرفض إقرار الواقع المنحرف عن الفطرة، ويعمل على الارتقاء بالناس إلى واقع ينسجم مع أصل الفطرة. أما الفلسفات المعاصرة فاللافت أنها تُشرّع للواقع بغض النظر عن ارتقائه أو انحطاطه. وعليه، فالواقعيّة التي تعني إقرار الواقع بسلبياته وإيجابياته هي واقعيّة مرفوضة إسلامياً.
قضايا للنقاش:
واقعيّة العقيدة الإسلاميّة في مسألة توحيد الخالق.
واقعيّة الشريعة الإسلاميّة في مسألة إباحة تعدد الزوجات.
ثالثاً: الوسطيّة والتوازن
الوسطية تعني الخيريّة، فلا إفراط ولا تفريط؛ فالشجاعة وسط بين التهوّر والجبن. والكرم وسط بين البخل والتبذير. وقد جاء في القرآن الكريم في الآية 29 من سورة الإسراء:" ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط"؛ فهذه وسطيّة فيها توازن.
وورد في صحيح البخاري:" جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي، عليه السلام، فلما أخبروا كأنّهم تقالّوها فقالوا: أين نحن من النبي، صلى الله عليه وسلم، قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال:" أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" . وهذه أيضاً وسطية فيها توازن، ثم هي واقعية تراعي حاجات الإنسان الفطرية.
وقد وازن الإسلام في تشريعاته بين ثنائيّات منها: العقل والقلب، والمادة والروح، والدنيا والآخرة، ومصالح الفرد ومصالح المجموع، كل ذلك في وسطيّة متوازنة. وإليك هذه المقارنة بين وسطيّة الإسلام وتوازنه من جهة، وتطرف الفكر البشري وعدم توازنه من جهة أخرى:
1) الفلسفة: تركيز على العقل وإهمال للقلب.
مدارس التصوف المختلفة: تركيز على القلب وإهمال للعقل.
الإسلام: العقل والقلب معاً.
2) المدارس المادّية: تركيز على الحياة الدنيا.
النصرانية ومثيلاتها: تركيز على الآخرة.
الإسلام: وحدة الدنيا والآخرة.
3) المدارس المادّية: تركيز على المادّة.
المدارس الروحية: تركيز على الروح.
الإسلام: توازن بين الروح والمادة.
4) الرأسمالية: تركيز على الفرديّة.
الاشتراكيات: تركيز على الجماعيّة.
الإسلام: موازنة بين مصالح الفرد ومصالح
المجموع.
معنى آخر للتوازن:
لدينا لوح من الخشب تمّ وضعه على قاعدة مُدببة، ومن أجل توازنه جعلنا نقطة الارتكاز في مركز لوح الخشب. فإذا قمنا بالضغط على نقطة الارتكاز يبقى التوازن قائماً، وكلما ابتعدنا عن المركز نحتاج إلى التخفيف من الضغط حتى يبقى التوازن قائماً. ولا شك أنّ أبعد نقطة عن المركز قد لا تحتمل أي نوع من الضغوط وإلا اختل التوازن.
وفي عالم الفكرة: إذا قمنا بإعطاء القضايا المركزيّة والأساسيّة اهتماماً أكبر، وقمنا في المقابل بإعطاء القضايا الهامشيّة اهتماماً أقل، بحيث يتناسب ذلك مع بعدها عن المركز، نكون بذلك قد أحدثنا توازناً في التعامل مع الأمور
المختلفة. أمّا إذا عاملنا الأمر الهامشي كما نعامل المركزي فإنّ التوازن عندها يختل لصالح الأمور الهامشيّة.
رابعاً: الثبات والمرونة
العقيدة ثابتة، لأنّها أخبار، والخبر الصادق ثابت. ومن علامات الكذب عدم ثبات الخبر في المسألة الواحدة. أما الشريعة فهي ثابتة في الأسس، وهي أيضاً مرنة لكونها تفتح باب الاجتهاد. ومن اللافت أنّ النصوص الشرعيّة منها ما هو قطعي في دلالته فلا يحتمل أكثر من معنى، وبالتالي لا يحتمل الاجتهاد، ويغلب أن يكون ذلك في النصوص التي تُشرّع أساسيات العقيدة والشريعة. في المقابل هناك نصوص تحمل دلالات مختلفة، وبالتالي فهي قابلة للاجتهاد والاستنباط والتفريع.
ولا تقتصر المرونة على قابلية الاجتهاد، بل نجد أنّ تقسيم الأحكام الشرعيّة إلى فرض، وواجب، ومندوب، وحرام، ومكروه، ومباح، فيه مرونة ورحمة بالإنسان. وكذلك الأمر في تشريع الرخص التي تستجلبها الظروف والأحوال؛ فتشريع الصيام في رمضان، مثلاً، لا يعني أنه يجب الصيام في كل الظروف والأحوال. وفرض الحج على كل مسلم مرهون بالاستطاعة ... الخ.
قضية للنقاش:
في نظام الحكم الإسلامي هناك بعض الثوابت، وهناك بعض المتغيرات.
خامساً: العموم والعالميّة
فالإسلام نزل لكل فئات الناس، بغض النظر عن طبقاتهم، وهو أيضاً للبشرية جمعاء إلى يوم القيامة؛ جاء في الآية 28 من سورة سبأ:" وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ..."، وجاء في الآية 158 من سورة الأعراف:" قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ...".
أما قبل نزول الإسلام فقد كانت الرسالات خاصّة، وذلك نظراً لحاجة المجتمعات إلى ذلك في طفولتها وصباها. وعندما قاربت الأمم أن تبلغ رشدها جاءت الرسالة العامّة. وبمضي الوقت أدّت الخصوصيّة في الرسالات، بالإضافة إلى غفلة الناس عن الدين الحق، إلى ظهور فكرة شعب الله المختار، والتي عادت فانقرضت إلا ما بقي عند اليهود من مخلّفات هذه العقيدة.
وقد تميّز الإسلام عن باقي الأديان بأنّ خطابه موجّه إلى كل فئات الناس وطبقاتهم. أمّا باقي الملل فنجدها تجعل الناس طبقات، وتؤمن بالكهنوت ورجال الدين، ويختلف خطابها الديني من طبقة إلى أخرى؛ فرجل الدين يُطلب منه الكثير من الالتزامات التي لا تطلب من غيره، وهذا يجعله متميزاً أيضاً على غيره من فئات الناس. ومثل هذا الأمر يعزز وجود الطبقات التي يتسلط بعضها على بعض.
سادساً: الإيجابية
أي أنّ الآثار المترتبة على الإيمان بالفكرة الإسلاميّة، والمترتبة على ممارستها، هي آثار طيبة ونافعة ومجدية. ويمكن من خلال إبراز هذه الخصيصة أن تتحصل لدى الكثيرين القناعة بالفكرة الإسلاميّة، لأنّ الغالبية من الناس تُحاكم الأفكار على ضوء نتائجها وآثارها المحسوسة. واليوم نجد أنّه يسهل على الناس أن يحكموا على الفلسفة الغربيّة من خلال الواقع الاجتماعي وما ينبثق
عنه. مع ملاحظة أننا لا نتكلم عن العلم وما نتج عنه من تكنولوجيا، لأنّ العلم وما نتج عنه هو أمر عام لا يخص أمة أو حضارة بعينها.
قضية للنقاش:
كيف نُعلل وفرة الإنتاج وسوء التوزيع في المجتمعات الرأسماليّة الغربيّة؟
كيف نُعلل ظاهرة الأسر التي لا تجد لها بيوتاً وتعيش في قارعة الطريق في الكثير من الدول الرأسماليّة على الرغم من تقدمها وغناها.
النقلة النوعية التي أحدثها الإسلام:
جاء في سيرة ابن هشام، وذلك عند الحديث عن هجرة المسلمين إلى الحبشة، عندما استدعى النجاشي المسلمين ليسمع منهم، فكان جعفر بن أبي طالب، رضي الله عنه، هو المتحدث باسمهم. وكان مما قال:" أيها الملك، كنّا قوماً أهل جاهليّة؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيءُ الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف؛ فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا، نعرفُ نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان. وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء. ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات. وأمرنا أن نعبد الله وحده، ولا نشرك به شيئاً ...".
بعض ما يستفاد من هذا النص:
1. لم يقم جعفر، رضي الله عنه، بتعريف الإسلام وتعديد أركانه، وإنّما أسهب في الحديث عن النقلة النوعية التي أحدثها الإسلام. وهذه أقصر الطرق إلى عقول الناس وقلوبهم.
2. إنّ ما حصل من تغيير في واقع العرب والبشريّة بعد نزول الإسلام هو في الحقيقة خرق للعادة لم تشهد البشريّة له مثيلاً من قبل ولا من بعد. بل يمكن اعتباره من وجوه إعجاز الرسالة الإسلاميّة.
3. إنّ عظمة الفكرة لا تكمن في صحتها واستنادها إلى المنطق السليم فقط، وإنما في فاعليتها وآثارها، وقدرتها على نقل الناس من واقع سلبي إلى واقع إيجابي.
بعض مجالات هذه النقلة:
1. النقلة المعرفيّة: من أجل إحداث تغيير جوهري لا بُدّ من الارتقاء المعرفي، ولا بد من تصحيح الأخطاء العلميّة. عندها سينعكس ذلك في واقع الناس في كافة المجالات وعلى رأسها الجانب العقَدي؛ فعندما تحدّث القرآن الكريم عن بعض مظاهر الكون، وأعطى فكرة صحيحة عن حقيقة الشمس والقمر والأفلاك، ساعد ذلك في تغيير اعتقادات الناس المتعلقة بهذه الأجرام.
2. النقلة العقديّة: نزل الإسلام على مدى 23 سنة، منها 13 سنة في مكة. ويُلحظ أنّ القرآن المكي يركّز بالدرجة الأولى على الجانب العقدي، والذي لا ينفصل عن المعرفي، واستمر هذا الاهتمام في المرحلة المدنيّة أيضاً، مما يشير إلى ضرورة التغيير في الأسس العقدية حتى نتمكن من إحداث نقلة نوعيّة وجوهريّة، لأنّ الجانب العقدي يُشكل الأساس الذي يقوم عليه البناء الفكري لأي أمة من الأمم، وهو أيضاً المؤثر الأساس في الجانب السلوكي. أي أنّ الجانب العقدي ينعكس على كل جوانب الحياة.
3. النقلة الأخلاقيّة: وهي تستند بالدرجة الأولى إلى التصورات العقديّة. ولا تكفي القناعات لتحقيق نقلة أخلاقية، بل لا بد من سلطة إلزام تتسلّط على الضمير فتوجّه السلوك، وهذا لا ينجح إلا إذا قام على أساسٍ ديني، فيه بُعد أخروي.
4. النقلة التشريعيّة: وهي تستند أيضاً إلى الجانب العقدي. وقد كانت النقلة في هذا المجال كبيرة إلى درجة أنّ الكتّاب المعاصرين، وعلى وجه الخصوص العلماء بالقوانين والتشريعات، يعتبرون التشريع الإسلامي من أهم وجوه الإعجاز في الرسالة الإسلاميّة.
5. النقلة في منهجيّة التفكير: إنّ النقلة الهائلة التي حدثت في الجانب العلمي والمعرفي لا ترجع في جوهرها إلى كم المعلومات والمعارف التي جاء بها القرآن الكريم بقدر ما ترجع إلى تأثيره في منهجيّة التفكير. ومن أراد أن يراجع التاريخ، ليبحث عن أساس الانفجار المعرفي والعلمي في العصور الأخيرة، فسيجد أنّ ذلك يرجع في الأساس إلى لحظات نزول " إقرأ باسم ربك الذي خلق ... ". وليس هناك من مسار تاريخي آخر يمكن السير فيه لاستكشاف مصدر النبع الأول لنهر العلوم والمعارف المعاصرة.
ولمزيدٍ من التوضيح إليك هذا المقتبس من كتابنا: (نظرات في كتاب الله الحكيم) تحت عنوان القرآن ومنهجيّة التفكير:
" القرآن الكريم يزيد قليلاً عن 77 ألف كلمة، وهذا يعني أنّه يعادل كتاباً من 300 صفحة تقريباً. ومثل هذا الحجم لا يتضمن، في العادة، الكثير من المعلومات والمعارف والخبرات. وعلى الرغم من ذلك، فقد أحدث القرآن الكريم تغييراً هائلاً وجذرياً في مسيرة البشريّة الفكريّة والسلوكيّة، مما يجعلنا نتساءل عن سر الانطلاقة الفكرية التي حدثت بعد نزوله. وظاهر الأمر أنّ السر لا يكمن في الكم الهائل من المعلومات، لأنّ مقدار 300 صفحة لا يكفي في العادة لإعطاء إلا القليل من المعلومات. والذي نراه أنّ السّر يكمن في المنهجيّة التي يكتسبها كل من يتدبر القرآن الكريم.
عند تَصفُّح أي كتاب نجده في الغالب يتسلسل في الفكرة والمعلومة من البداية حتى النهاية. ويرجع هذا الأمر إلى رغبة الكاتب في إعطاء القارئ المعلومات والخبرات. ولكن من يتصفّح القرآن الكريم يلاحظ أنّ اكتشاف التسلسل يحتاج إلى تفكّر وتدبّر. من هنا نجد أنّ غير العرب يشعرون عند قراءة ترجمة القرآن الكريم بأنه غير مترابط في كثير من المواقع. ويرجع هذا إلى أنّ القرآن الكريم يخالف في صياغته مألوف البشر، ثمّ إنّ كلماته المعدودة تحمل المعاني غير المتناهية. ولا ننسى أنّ إعجاز القرآن الكريم يرجع بالدرجة الأولى إلى لغته، وبيانه وإيجازه…وأنّ فهمه يحتاج إلى تدبّر. ويُلحظ أنّ من يعتاد تدبّره تنشأ لديه منهجيّة في التفكير والاستنباط. وإذا وُجدت هذه المنهجيّة أمكن أن يوجد الإنسان المبدع. وكل من يتعمق في تدبّر القرآن الكريم ودراسته يلمس الترابط بين معاني كلماته، وجُمله، وآياته، بل وسوره. ولا يزال علماء التفسير يشعرون بحاجتهم إلى التعمق أكثر من أجل إبصار معالم البنيان المحكم للألفاظ والجمل القرآنيّة.
العلوم المنهجيّة أولاً:
الدارس لتاريخ الفكر الإسلامي يلاحظ أنّ ظهور علم أصول الفقه، وعلم أصول الحديث، وعلم الكلام، وعلم النحو والصرف،... كل ذلك كان قبل ظهور علوم مثل؛ الطب، والصيدلة، والكيمياء، والبصريات…وغيرها من العلوم. من هنا، فقد ظهر العلماء والفقهاء واللغويّون من أمثال مالك، والشافعي، والخليل بن أحمد، قبل ظهور الرازي وابن سينا وجابر بن حيّان... وغيرهم. وهذا أمر بدهي؛ فعلم أصول الفقه هو علم في منهجيّة الاجتهاد والاستنباط، وعلم أصول الحديث هو علم في منهجيّة البحث التاريخي، وعلم النحو هو علم قائم على منهج الاستقراء، وعلم الكلام هو الأساس الفلسفي للفكر الإسلامي.
لقد أدّى التطور في منهجيّة التفكير لدى المسلمين إلى ظهور العلوم المختلفة؛ فكانت البداية تتعلّق بالأسس المنهجيّة، ثم كانت الثمار المتمثلة بالعلوم المختلفة، ومنها العلوم الكونيّة. ويمكننا اليوم أن نقسّم تاريخ الفكر البشري إلى مرحلتين؛ مرحلة ما قبل الإسلام، ومرحلة ما بعد الإسلام؛ حيث تميّزت المرحلة الثانية بمنهجيّة مستمدة من القرآن الكريم، أدّت إلى نهضة فكريّة وعلميّة هائلة أفرزت في النهاية الواقع العلمي المعاصر، إذ من المعلوم أنّ الغرب قد تتلمذ على المسلمين، وعلى وجه الخصوص في الأندلس وجامعاتها، إلى درجة أنّهم لم يعرفوا آباء الفلسفة الغربية من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو... وغيرهم من الفلاسفة اليونانيين، إلا من خلال ترجمات علماء المسلمين.
التدبّر يورث المنهجيّة:
إذا كان القرآن الكريم قد طوّر منهجيّة التفكير لدى الصحابة والتابعين وأتباعهم… فلماذا لا يؤثر اليوم في منهجيّة التفكير لدى كثير من المسلمين، على الرغم من كونهم يتلونه صباح مساء؟!
للإجابة عن هذا التساؤل نقول: اللافت للانتباه أنّ الغالبيّة الساحقة ممن يقرأ القرآن الكريم اليوم لا تزيد على أن تتلوه بصوت مسموع، أو بشفاه متحركة، ويندر أن نجد من يقرؤه متدبراً لمعانيه، متفكراً في مُشكلاته؛ إذ لا تتشكّل منهجيّة التفكير لدينا إلا عند تسريح الفكر في معانيه، وتراكيبه وأساليبه وتصريفاته…
والدارس لتاريخ التفسير والفقه، ومناهج المفسرين والفقهاء، يدرك أنّ بوادر هذه المنهجيّة قد تجلّت لدى المفسرين والفقهاء المجتهدين. أي لدى الذين تعاملوا بعمق مع النص القرآني الكريم. وحتى يتحقق الأثر المنشود على مستوى مناهج التفكير، لا بد من أن نضيف إلى تلاوة القرآن الكريم التدبّر. بل لا بد من تقديم التدبّر على التلاوة، والفهم على الحفظ. ولسنا نقلل من أهميّة التلاوة والحفظ؛ فالمتدبّر الحافظ هو أقدر من غيره على النظر بشمول إلى القرآن الكريم، وهو الأقدر على تفسير القرآن بالقرآن، ثم هو الأقدر على الملاحظة والربط....وفوق ذلك كله يبقى الحفظ عن ظهر قلب من مقاصد التربية القرآنيّة.
الصحابة والقرآن:
عندما كان الصحابة والتابعون، رضوان الله عليهم، وهم أهل اللغة والبيان، يتدبّرون القرآن الكريم، فيشكل عليهم، يأخذ ذلك حظاً من تفكيرهم، ويلجأ بعضهم إلى بعض يتشاورون؛ فهذا معاوية، يدخل عليه عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، فيقول معاوية: "لقد ضربتني أمواجُ القرآن البارحة، فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك"، ويعرض عليه آية من الآيات التي استشكلها، فيبيّنها عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما. وهذا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وفي أكثر من موقف، يجمع الصحابة ويناقش معهم معنى آية كريمة أو أكثر. أما اليوم، فيكتفي الكثير من الناس، عند استشكال معنى آية من الآيات، بالرجوع إلى كتابٍ من كتب التفسير. ويندر أن يتمّ الرجوع إلى أكثر من كتاب في التفسير، ويندر أيضاً أن تتم مناقشة ذلك مع آخرين للتوصل إلى فهم أفضل. فلا عجب بعد ذلك أن لا تتشكل عند الكثيرين منا المنهجيّة المأمولة. في المقابل لا عجب أن يتأثر الصحابة والتابعون بالقرآن الكريم، ثم تتشكّل لديهم المنهجيّة في التفكير، فيظهر أثر ذلك فيما تحصّل من تطوّر سريع ومتصاعد على مستوى الفكر والمعرفة ومناهج البحث والعلوم المختلفة، حتى بلغ كل ذلك أوجهُ في القرن الرابع الهجري.
المنهجيّة وتقسيمات القرآن الكريم:
قلنا إنّ عدد كلمات القرآن الكريم يزيد قليلاً عن 77 ألف كلمة، وهذا يعادل 300 صفحة. ويتألف القرآن الكريم من 114 سورة، منها السور الطويلة ومنها القصيرة. ولا تزيد أطول سورة عن 24 صفحه، في حال كون كل صفحة تتألف من 260 كلمة. في المقابل تتألف أقصر سورة من عشر كلمات. أما باقي السور، فهي بين ذلك طولاً وقِصراً. وتتألف كل سورة من عدد من الآيات. وإذا عرفنا أنّ متوسط عدد كلمات الآية الواحدة هو 12.4 كلمة، وأنّ بعض الآيات تتكون من كلمة واحدة أو كلمتين، تبيّن لنا أنّ هذا الأسلوب يختلف عما اعتاده البشر في كتاباتهم.
في أكثر من مّرة أعرضنا عن شراء كتب نفيسة بسبب أسلوب العرض فيها؛ حيث السرد المتواصل، فلا تبويب، ولا فقرات، ولا علامات ترقيم... ولو عُرِضت علينا مثل هذه الكتب بالمجّان لترددنا في أخذها، لعِلمنا أنّها ستأخذ من مساحات رفوف المكتبة، ولعِلمنا بأن لا دافعيّة لدينا لقراءَتها، بل إنّ القراءة فيها ضرب من المعاناة. وقد تُفاجأ بعد حين بهذا الكتاب نفسه وقد أُخرِج بثوب جديد، وقُسّم إلى فُصول وأبواب، وازدان بالعناوين الواضحة والفقرات القصيرة، ولوّنت فيه بعض العبارات الهامّة، ووضعت الفواصل والحدود بين الفصل والفصل، والباب والباب، والفقرة والفقرة، والجملة والجملة... نعم، فبإمكاننا الآن أن نركز على التفاصيل، وأن نُلمّ بكُلّ صغيرةٍ وكبيرة؛ فقد أصبح الوضوح نوعاً من الجمال الجذّاب، والمتعة الدافعة. فلا بُد من الفصل والتحديد، حتى يتسنّى للقارئ أن يركّز ويميّز. ألا ترى أنّ القرآن الكريم يتألّف من 114 سورة، وكل سورة هي عدد من الآيات؟! فهل من قبيل الصدفة أن تسمّى (السورة) سورة؟! فكلمة سورة تذكِّرُنا بالسُّور، الذي يفصل بين قطعة أرضٍ وأخرى وبيتٍ وآخر. وهل من قبيل الصّدفة أن تسمّى الآية آية؟! فهذه الكلمة تُذكرنا بالعلامة الواضحة، والتي يُشكّلُ وُضوحها دليلاً، هو في النهاية حجّة وبرهان.
وقد يكون هذا المنهج في العرض من أسرار تأثير القرآن الكريم. والمتدبّر يلاحظ أنّ الآيات المكيّة غالباً ما تتسم بالقصر، في حين أنّ الآيات المدنية، إجمالاً، تتسم بالطول النسبيّ. ومعلوم أنّ التركيز في المرحلة المكيّة كان على الجانب العَقَديّ. وهذا يعني أنّ طرح العقيدة يحتاج إلى الأفكار المركّزة والسريعة، بعيداًَ عن التطويل والتفريع. وهذا يرشدنا إلى اعتماد أسلوب الشِّعار في الدعوة إلى الأفكار والعقائد؛ فذلك أسرع في تبليغ الفكرة وتعميمها ويجعلها أسهل وأسرع تناولاً. أما أسلوب الفلاسفة، فلا يصلح إلا لفئة قليلة متخصصة.
من ينظر في سورة الإخلاص، مثلاً، يلاحظ أنها شعار واضح ورسالة سريعة وحاسمة، تجلجل بعقيدة التوحيد: "قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد". وهذا يرشدنا إلى المنهجيّة التي يجدر بنا أن نتبعها عند مخاطبة عامّة الناس وعند الدعوة إلى الفكرة والمبدأ. ويدعونا ذلك أيضاً إلى الاستفادة من منهجيّة القرآن المكي والمدني، لتوظيفها في مخاطبة الناس، بحيث يكون لكل مقامٍ مقال.
أولوية المنهجيّة:
غالباً ما يهدف الكُتّاب في كتاباتهم إلى تزويد الناس بمعلومات وخبرات جديدة. لذلك فهم يتسلسلون في الأفكار من البداية وحتى النهاية. ومن ذلك تتسلسل الأبواب والفصول. ويكون ذلك واضحاً غاية الوضوح وإلا عُدّ عدم التسلسل خللا وقصوراً. وهذا أمر مفهوم في العمل الذي يُقصد به نقل المعلومة والخبرة. أمّا إذا أردنا الحث على التفكير والتدبّر وخلق المنهجيّة السويّة في التفكير والبحث والاستنباط، فإنّ أسلوب العرض يجب عندها أن يختلف؛ فلا نعود بحاجة إلى التسلسل الواضح، بل نكون بحاجة إلى التسلسل الذي يجتهد القارئ في اكتشافه.
عند تدبّر القرآن الكريم نقوم أولاً بتدبّر آية ثم آية أخرى. فإذا فهمنا معانيها يصبح من السهل علينا بعد ذلك أن نربط بين الآيات. ويُفترض بعدها أن نلاحظ أنّ آيات السورة جاءت في مجموعات. وإذا فهمنا معاني المجموعة الأولى، ثم المجموعة الثانية، أمكن أن نربط بين معاني المجموعات. وبعد أن ننتهي من فهم سورةٍٍ كآل عمران، مثلاً، نقوم بتدبر سورة النساء. فإذا فهمناها؛ كلمات وجُملاً وآيات ومجموعات، أصبح بإمكاننا أن نربطها بسورة آل عمران التي تسبقها في ترتيب المصحف. ولا يسهل علينا أن نربطها بسورة المائدة، التي تليها، حتى نتدبر سورة المائدة أيضاً، وذلك في مستوى الكلمات والجمل والآيات والمجموعات. وكمال الفهم للسورة الأولى، و كمال الفهم للسورة الثانية، يؤدّي ذلك كله إلى استكشاف الروابط والصلات بين السورتين،...الخ. وتكون المفاجأة عندما نكتشف أنّ القرآن يفسر القرآن، فيتجلّى لنا بناءاً متكاملاً متراصاً. وسيبقى الإنسان ينظر في تفاصيل هذا الكتاب العظيم من أجل تصوّرٍ أفضل لحقيقة بنائه، تماماً كما يفعل وهو يحاول أن يفهم حقيقة بناء الكون البديع.
المنهجيّة والقصص القرآني:
المتدبر للقرآن الكريم يلحظ أنّ بعض القَصص القرآني يتكرر في أكثر من سورة. والذين يظنون أنّ القرآن الكريم نزل ليزوّد الناس بمعلومات ومعارف قد يرون في هذا التكرار ظاهرة غير إيجابية. وهم بذلك إنما يذهلون عن حقيقة أنّ القرآن الكريم يُربّي الناس تربية شاملة، ومن ذلك تربيتهم على منهجيّة التفكير. والملحوظ أنّ القَصص القرآني يختلف عن القصص البشري، الذي يغلب أن يكون سرده متسلسلاً ومفصّلاً. بل هو، إن صحّ التعبير، لقطاتٌ قد تطول قليلاً وقد تقصُر. ولكنها إن طالت تبقى في إطار القصة القصيرة، بل القصيرة جداً. أما التكرار في القصة القرآنيّة فإنّه ظاهري يتوهمه من يتلو القرآن الكريم من غير تدبّر. أما أهل التدبّر فيعلمون أن لا تكرار إلا في الشكل، أما في الجوهر فلا تكرار. من هنا نجد من المناسب أن نلفت الانتباه إلى الآتي:
1. تكرار القصة القرآنيّة لا يعني أنّها تتكرر بتفاصيلها؛ بل قد تزيد في بعض التفاصيل والحيثيّات وقد تنقص.
2. تختلف السياقات التي يتكرر فيها القَصص القرآني، مما يعني أنّ المعنى المستفاد يختلف باختلاف السياق.
3. تُستبدل بعض المفردات أو الجُمل بغيرها، ويكون تقديم وتأخير في الألفاظ والجُمل. ويختلف الجَرْس، وتختلف الموسيقى، وتختلف فواصل الآيات.
4. تختلف أهداف القصة القرآنيّة عن أهداف القصة في كتابات البشر. من هنا تتعدد المقاصد عند تكرار القصة.
5. إنّ الأسلوب القرآني في التكرار يُطوّر في منهجيّة التفكير لدى المتدبّر، لأنّه يساعد على ملاحظة الأنماط المحتملة، والصيغ التي يمكن أن تتعدد، والتغييرات المطلوبة لتحقيق الانسجام مع السياق من حيث الجوهر، ومن حيث الشكل البلاغي الذي لا بد أن تتجلى فيه المعاني. ثم هو يعين على تصوّر البدائل الممكنة، والاحتمالات المُدّخرة.
الذي خلق هو الذي أنزل:
تتألف المادة من: إلكترونات، وبروتونات، ونيوترونات. ومجموع هذا يسمّى ذرّةً، ومجموع الذّرات يسمّى جُزيئاً، ومجموع الجزيئات يسمّى مُركّباً. ومن هذه الذرات والجزيئات والمركبات تكون التنوعات التي تبدو لا متناهية. ولو أخذنا عنصر البوتاسيوم، كمثال، فسوف نجد أنّ اختلاف نسبة هذا البوتاسيوم في النباتات المختلفة يؤدّي إلى اختلاف الأطعام. ولا يقال إنّ طعم الموز، مثلاً، هو نفسه طعم التفاح على اعتبار أنّ مردّه إلى البوتاسيوم، فقد أدّى اختلاف نِسَب البوتاسيوم إلى اختلافٍ كبير في المذاق. وإذا تعمّقنا أكثر نجد أنّ مكونات التفاحة هي في الحقيقة إلكترونات وبروتونات ونيوترونات، وهذه هي نفسها مكونات الحديد، والنحاس...
فالتكرار في عالم المادّة هو الأساس الذي يقوم عليه كل التنّوّع والثراء الذي يتصف به الوجود. وإذا كان تكرار الكلمة لا بد منه وتكرار الجملة لا بأس به، فإنّ لتكرار القصة فوائد كثيرة؛ حيث يؤدّي ذلك إلى ظهور أبنية جديدة، ويولّد صوراً متنوعة، ويلهم آفاقاً رحبة، ويكشف عن دروس غنيّة، ويخلق منهجيّه في التفكير والاستنباط.
وعليه فإنّ المطلوب هنا هو تركيز الاهتمام بالنص القرآني من أجل محاولة استكشاف الأنماط التي تؤسس لمنهجيّة سويّة في التفكير". ا.هـ
العرب والإسلام
يُقدّر بعض أهل التاريخ زمن إبراهيم، عليه السلام، بما يقارب سنة 1800 ق.م . ومعلوم أنّ إبراهيم، عليه السلام، قد وُلِد له إسماعيل وإسحق، عليهما السلام. أما إسماعيل فقد كان رسولاً لأهل الجزيرة العربيّة. واللافت أنّه لم يُعرف في العرب نبي ولا رسول بعد إسماعيل، عليه السلام، إلا محمد، صلى الله عليه وسلم. وبين محمد وإسماعيل، عليهما السلام، ما يقارب الـ 2400 سنة. في المقابل نجد أنّه خلال 1800 سنة، وهي المدّة من إبراهيم حتى عيسى، عليهما السلام، قد جاء من نسل إسحق، عليه السلام، عدد كبير من الأنبياء والرسل أمثال: موسى، وداود، وسليمان، وإلياس، واليسع، وزكريا، ويحيى، وأيوب، وآخرين لم يذكر القرآن الكريم أسماءهم.
إنّ هذه التجربة التاريخيّة تُثبت أنّ الأمة العربيّة، التي كانت تسكن الجزيرة العربية، محصنة أكثر ضد عوامل الانحراف والانحلال، ومن هنا استحقت بجدارة أن تحمل رسالة الإسلام. جاء في الآية 124 من سورة الأنعام:" ... الله أعلمُ حيث يجعلُ رسالته ..." .
يرى الأستاذ محمد المبارك، في كتابه: (الأمة العربيّة في معركة تحقيق الذات)، أنّ العرب، قبل الإسلام، كانوا يتميّزون على غيرهم من الأمم بنمو الجانب العقلي، وبخلق يقدّر القيم المعنويّة. وإليك توضيح ذلك:
1. نمو الجانب العقلي: ينبغي التنبيه هنا إلى أنّ النمو العقلي غير مرتبط بالنمو العلمي والتكنولوجي؛ ففيلسوف مثل أرسطو كان يتميّز بنمو الجانب العقلي ولكنه لم يبلغ في علومه ما عند صبي يعيش في زماننا
هذا. وإذا كان بإمكاننا أن نقدّر مستوى النمو العقلي لشخص ما بالإصغاء إليه عندما يتكلّم، فإنه بإمكاننا اليوم أن ننظر في الشعر الجاهلي فنرى تجليات النمو العقلي عند العرب قبل الإسلام. وعندما نعلم أنّ العرب كانت تلتقي في أسواق أدبية، وأنّهم قد بلغوا في البلاغة والقدرات النقديّة مبلغاً عظيماً، ندرك أنهم كانوا قد غادروا المرحلة الحسيّة من التفكير وأصبح تفكيرهم مجرداً؛ أي أصبحوا قادرين على التعامل مع عالم المعنى والفكر النظري.
2. تقديرهم للقيم: من يقرأ تاريخ العرب في الجاهلية يدرك أنّهم كانوا يُقدّسون القيم الأخلاقيّة، وهذا واضح في تاريخهم الفكري والأدبي. وقد تميّزوا على باقي الأمم بالكرم والشهامة والفروسيّة والتضحية ...
على الرغم من ذلك كله ما زلنا نصفهم بالعرب الجاهليين. فما حقيقة جاهليتهم؟!
كانت جاهليتهم في أمور منها:
1. تصوراتهم العقديّة، وممارساتهم العباديّة.
2. مبالغاتهم في تقدير القيم؛ فلم يكن وأد البنات، مثلاً، نابعاً عن انحلال خلقي، بل كان الدافع إليه الحساسيّة الشديدة تجاه قيم الشرف. وحروب الثأر أيضاً كان الدافع إليها الوفاء، والأنفة من الذل والاستكانة.
3. بعض العادات السلبيّة؛ فأخلاقهم، مثلاً، تأبى أن تزني المرأة الحرة، ولكنهم يقبلون ذلك للأَمة المستعبدة. وهم لا يرون في زنا الرجل عاراً. ولم يكونوا يورّثون المرأة. وغير ذلك من العادات، التي نجدها في كثير من الأمم حتى يومنا هذا.
الدين جعلهم أمة:
المعروف تاريخيّاً أنّ الجزيرة العربية لم تشهد، قبل الإسلام، قيام دولة تجمع العرب في كيان سياسي واحد، وإنما كان ذلك، أول ما كان، على يد النبي، صلى الله عليه وسلم. وإذا كان ذلك كذلك، فما الذي كان يُشعر العرب بأنّهم أمّة؟!
إنّه الدين، وإنها القِبلة الواحدة؛ فمن إسماعيل حتى محمد، عليهما السلام، اعتاد العرب أن يجتمعوا في مكة مرّة واحدة في العام، على أقل تقدير. وحتى عندما انحرفوا، فعبدوا آلهة متعددة، وجدناهم يُحضرون هذه الأصنام فيضعونها في الكعبة. وقد أدّى اجتماعهم لما يقارب الـ 2400 سنة إلى وجود لغة مشتركة يفهمها كل العرب، سُميت فيما بعد بلهجة قريش. وأدّت اللغة المشتركة هذه إلى اجتماعهم من أجلها في أسواق أدبيّة. فالدين إذن هو الذي صنع منهم أمة ابتداءً، ثم جاء الإسلام فأعاد صياغتهم وجمعهم في نظام فكري وسياسي واحد، فكانوا قادة هداة لم يعرف التاريخ لهم مثيلاً.
كانت مقدّمات لا بد منها:
1. نمو عقلي وتفكير مجرد.
2. تقدير للقيم المعنويّة.
3. لغة أدبية مشتركة ومتفوقة.
4. وعيهم وإدراكهم لحقيقة أنهم أمة.
هذه المقدمات كانت ضروريّة لنزول رسالة الإسلام، وذلك للآتي:
1. القرآن الكريم معجزة فكريّة. وهذا يحتاج إلى نمو عقلي يساعد العربي على فهم الرسالة وبالتالي على حملها إلى باقي الأمم.
2. القرآن معجزة بلاغيّة. وهذا يحتاج إلى أمة متميزة في هذا الجانب، بحيث تقدّر ذلك، وتفهمه، وتتفاعل معه، وبالتالي تكون مُهيّأة لحمل رسالة الإسلام، وتبليغه للناس، كل الناس.
3. حمل الرسالة يحتاج إلى فهم متميز وأخلاقيّة متفوّقة، ومستوى عالٍ من القدرة على البذل والتضحية.
4. رسالة الإسلام رسالة عالميّة جاءت للبشرية جمعاء، وهي تحتاج إلى أمة لتحملها وتستمر في حملها إلى يوم القيامة.
بذلك يتضح أنّ الأمة العربيّة كانت تُصنع في الجزيرة العربيّة، وتُهيّأ لتحمل الرسالة الخاتمة. بل إنّ رسالة إسماعيل، عليه السلام، كانت المقدمة التي قادت إلى النقطة التي التقى فيها قدَر العرب بقَدَر الرسالة الخاتمة. وجاء الواقع ليثبت ويجلّي هذه الحقيقة؛ فلم تعرف البشرية، في كل تاريخها، أمّة هادية تحمل الحقيقة إلى البشرية جمعاء إلا أمة واحدة هي أمّة العرب. ولم يعرف التاريخ أداءً مقارباً لأدائها في التبليغ والاستقطاب. وأنت تعجب من استيعابهم للفكرة، ورغبتهم الشديدة في تبليغها، وقدرتهم الخارقة على اقتحام الحواجز وإسقاط القوى والإمبراطوريّات الظالمة.
لم تنته وظيفة الأمة العربيّة بتبليغها الرسالة في فجر الإسلام، بل هي وظيفة مستمرة باستمرار وظيفة الإسلام، الكائنة إلى يوم القيامة. وستبقى عناصر شخصيتها الأولى قائمة في الأجيال المتعاقبة، مما يجعلها قادرة على النهوض من كبواتها، لتعود إلى فاعليتها الفذّة في عالم الهداية.
لقد استطاع الاستعمار الغربي في القرون الأخيرة أن يحتل الغالبيّة العظمى من بلاد العرب والمسلمين. ولم يقتصر الأمر على الغزو العسكري، بل تعدّاه إلى الغزو الفكري والحضاري. ومما زاد الأمر سوءاً أنّ ذلك كله قد حدث في مرحلة تخلف الأمة، وعلى وجه الخصوص تخلفها في الجانب الفكري والعلمي، فكان من المتوقع أن تُلحق الأمة بثقافة الغرب، لأنّ الهجمة كانت شرسة وشاملة، شُنّت على أمة بدت فاقدة لكل الأسلحة التي تساعدها على المقاومة والتصدّي. بل ظهرت، في بعض لحظات التاريخ، مأخوذة ومبهورة بما لدى الغرب من ثقافة وحضارة.
ثم كانت المعجزة؛ فإذا بالأمة تعود إلى ذاتها الحضاريّة، وتكتشف الإسلام مرّة أخرى، فكأنه تنزّل عليها ثانياً. وكل المؤشرات المعاصرة تقول إنّ الأمة لم تعد في موقع الدفاع عن الفكرة الإسلاميّة، بل باتت تقوم بهجمة مضادة على المستوى الفكري والعقدي، وذلك على الرَُغم من ضعف وسائلها العلميّة والتكنولوجيّة، وتخلُّفها النسبي في عالم المدنيّات. بل لقد غدت متفوقة في المستوى الثقافي والعقدي إلى درجة أن نجد بلداً كفرنسا تتنكر لقيم الديموقراطيّة التي ولدت في ربوعها من أجل أن تحمي ثقافتها من الغزوة المضادة، التي بدأت تُعلن عن نفسها في صورٍ ومظاهر مختلفة. وما قضيّة الحجاب التي أثيرت في فرنسا والغرب إلا بعض إرهاصات تداعي الثقافة الغربيّة أمام الفكرة الإسلاميّة.
لقد دخل الاستعمار الغربي الفلبين والمسلمون فيها أكثريّة، وخرج منها وهم أقلية. ودخل أندونيسيا ونسبة المسلمين 100% والآن تقارب الـ 95%. وقد تكرر ذلك في أكثر من بلد إسلامي، ولكنه لم يحصل قط في أيٍّ من البلاد العربيّة، بل على العكس من ذلك فإنّ نسبة المسلمين في بعض البلاد العربيّة قد زادت. وهذا إن دلّ فإنّما يدل على أنّ العربي المسلم مُحصن أكثر من غيره تجاه كل الغزوات الفكريّة، وهو وإن أصيب وأخذ في لحظات تراجع وعيه، إلا أنّه ما لبث أن عاد إلى ذاته الحضاريّة، وانتفض بعقيدته التوحيديّة. إنّها الشخصيّة المحفوظة بحفظ الرسالة الإسلاميّة.
واليوم يتجلى عجز الغرب الثقافي بلجوئه إلى القوة العسكريّة من أجل محاصرة الفكرة الإسلاميّة. وقد بات يستخدم كل وسائله المتطورة لتشويه صورة الفكرة الإسلاميّة في أذهان الشعوب الغربيّة، في محاولة لإقامة الحواجز التي يمكن أن تصد الحقيقة فلا تصل إلى تلك الشعوب، والتي عانت طويلاً من ظلمات الإلحاد والمادّيات وغدت تبحث عن طوق النجاة الذي باتت تجده في الإسلام. وما الجموع الغفيرة التي تدخل الإسلام في الغرب إلا المقدّمات التي تُرهص بإمكانية تكرار تجربة الإسلام الأولى على يد العرب مرّة أخرى، وهذا قد يفسر لنا بعض دوافع الغرب في حرصه الشديد على محاصرة العرب، ومحاولة تأخير نهوضهم، دون غيرهم من الأمم.
يمكن أن نعرّف الفكر بأنّه: إمعان النظر والتأمل في الأشياء الحسيّة والمعنويّة من أجل الوصول إلى حقيقتها.
الحسيّة: مثل أن نمعن النظر لمعرفة أسباب صدأ عنصر الحديد.
المعنويّة: مثل أن نمعن النظر لمعرفة أسباب سقوط الدول والإمبراطوريات. ويغلب أن يُطلق على عمليّة إمعان النظر اسم (التّفكر)، وعلى نتاج هذه العملية اسم (الفكر).
لماذا هو إسلامي؟
لأنّه ناتج عن إمعان النظر في مصادر الإسلام من قِبل المسلمين عبر العصور المختلفة. فهو الفكر الذي أتى نتيجة تفاعل المسلمين عبر العصور مع الإسلام؛ كالفقه، وعلم أصول الفقه، وعلم أصول الحديث، وعلم أصول الدين (العقيدة) ، وعلم الأخلاق، وعلم التربية، وعلم التفسير ... الخ.
خلاصة:
يكون الفكر إسلامياً في الحالات الآتية:
1. عندما يكون المفكّر مؤمناً بالإسلام ومقتنعاً بمبادئه.
2. عندما يُعمِل المسلمُ فكره في المصادر الإسلاميّة، ويكون نتاجه الفكري مؤسسا على هذه المصادر، والتي هي الأصول.
3. عندما يُعمِل المسلم فكره في المصادر غيرالإسلاميّة، ولكنه يستند في تقييمه وأحكامه ومواقفه إلى أساسيات الإسلام عقيدة وشريعة.
وعليه لا يكون فهم المستشرقين الدارسين للإسلام، ولا استنباطاتهم، ولا أحكامهم، فكراً إسلامياً. وكذلك لا يعتبر فكر المسلمين المتاثرين بأصول الفلسفات غير الإسلاميّة فكراً إسلامياً.
قضايا للنقاش:
هل الفكر الإسلامي معصوم من الخطأ؟
هل يمكن مراجعة هذا الفكر وانتقاده؟
إذا جازت المراجعة فعلى أي أساس ينبغي أن تتم؟
من أسس الفكر الإسلامي:
الأساس الأول: التوحيد.
أ. توحيد الربوبيّة: فهو وحده، سبحانه، الخالق الرازق الواهب... والمربّي لعباده.
ب. توحيد الألوهية: لأنّه وحده الرب الحقيقي فينبغي أن يكون وحده المعبود (المألوه).
ج. توحيد الأسماء والصفات:
فالله هو وحده المتصف بصفات الكمال. والمسلم يُثبت لله هذه الصفات وينزهه عن كل نقص، ويؤمن بأسماء الله وصفاته التي ثبتت بالقرآن والسنّة، من غير تعطيل ولا تكييف ولا تشبيه. ولا نَصفُ الله تعالى إلا بما وصف به نفسه.
التعطيل: نفي الصفات، كما يفعل المعتزلة؛ فهم ينفون أن تكون لله صفة سمع أو صفة إبصار غير الذات. ويقولون: إنّ الله تعالى بصير بذاته وسميع بذاته. ومن هنا نشأت مسألة خلق القرآن عند المعتزلة؛ فقد زعموا أنّ الله تعالى لا يتكلم
وإنما يخلق الكلام، فالكلام الذي سمعه موسى، عليه السلام، مثلاً، لم يتكلم به الله تعالى، وإنما خلقه الله تعالى في الشجرة.
التكييف والتشبيه: إثبات كيفيّة للصفة، وتشبيهها بصفات المخلوقين.
جاء في الآية 11 من سورة الشورى: "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"؛ فالخالق سبحانه منزه عن المثيل، وهو متصف بصفات الكمال.
بعض مآخذ القرآن الكريم على أهل الكتاب في مسألة التوحيد:
جاء في الآية 17 من سورة المائدة:" لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم ...". وجاء في الآية 72 من سورة المائدة:" لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم، وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربّي وربكم، إنّه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنّة، ومأواه النار وما للظالمين من أنصار". وجاء في الآية 73 من سورة المائدة:" لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة، وما من إله إلا إله واحد ...". وجاء في الآية 30 من سورة التوبة:" وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، ذلك قولهم بأفواههم، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ...". وجاء في الآية 31 من سورة التوبة:" اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيحَ ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً، لا إله إلا هو، سبحانه عمّا يشركون".
الأساس الثاني: ربّانية المصدر والقيم:
عندما يكون المصدر هو الرّب فإن ذلك يعني:
. انسجام هذا الفكر مع الفطرة؛ لأنّ الذي خلق هو الذي أنزل. وأي خروج على مبادئ الدين يعني التناقض مع الخلق، مما يؤدي إلى حدوث الخلل، كما هو الأمر، مع الفارق في التمثيل، عندما نخالف أوامر الصانع الذي أرسل إلينا بما يُسمى بـ(الكاتالوج)، فكيف عندما يكون الصانع هو الخالق، الكامل في قدرته وعلمه وحكمته؟!
2. استناد هذا الفكر إلى الحقيقة المطلقة، مما يجعله الأقرب إلى الصواب، والأبعد عن الخطأ والزلل.
3. قوة فعل هذا الفكر في المجتمعات، لاستناده إلى الإيمان، حيث لا سلطة على الضمير إلا للدين. وواقع الناس يثبت أنّ الإيمان بالله هو من أقوى دوافع الالتزام على مستوى مجموع البشر.
الأساس الثالث: وحدة الدنيا والآخرة.
فصلاح دنيا المرء يؤدّي إلى صلاح آخرته، وصلاح آخرته مشروط بصلاح دنياه. وهذا يعني أنّ الإيمان بالآخرة يؤدّي إلى صلاح الدنيا. وفي الوقت الذي يكفر فيه الإنسان بالآخرة فإنّه يفقد مسوّغ وجوده في الدنيا، ولا يجد نفسه بعد ذلك ملزماً بالقوانين والقيم والأخلاق، فتصبح المصلحة الفرديّة هي المحرّك والمسوّغ والقيمة والمبدأ. وواقع المجتمعات الماديّة يثبت ذلك؛ فأنت ترى أنّ الفلسفة النفعيّة هي الفلسفة التي يقوم على أساسها واقع هذه المجتمعات.
مثال توضيحي:
عندما ينقطع التيار الكهربائي عن التلفاز فإنّ كل قطعة في هذا التلفاز تفقد معناها ووظيفتها، وكذلك الأمر في حياة البشر عندما تنقطع الصلة بالدين، وعلى وجه الخصوص بالآخرة، فكل شيء يفقد عندها معناه، حتى الحياة، وتصبح القيم والمبادئ في مهب الريح، لأنها تفقد سلطتها على الضمير، الذي يشكّل مرجعيّة عليا لها. واليوم تقف الفلسفات الماديّة عاجزة عن إقناعنا بمسوّغ وهدفيّة الحياة بكل ما فيها.
قضية للنقاش:
إنسان مادي، لا يؤمن بالآخرة، ويريد أن ينتحر، كيف يمكن أن تقنعه بعدم الانتحار من غير أن تستخدم الدين وسيلة للإقناع؟!
من خصائص ومزايا الإسلام:
أولاً: الشمول والكمال
فهو شامل لجميع نواحي الحياة. ومن هنا يلاحظ المسلم أنّ في الإسلام إجابة عن كل سؤال، أي أنّ هناك حكماً شرعياً لكل حركة وسكنة.
مثال:
إذا أراد المسلم أن يتزوج يجد أنّ هناك أحكاماً للخطبة، ثم أحكاماً للزواج. وإذا حملت زوجته يجد أنّ هناك أحكاماً للجنين، ثمّ أحكاماً للمولود، ثم هناك أحكام للحضانة والرضاع، وهناك تفصيل لأحكام تربية الأولاد، وتفصيل لأحكام النفقات، وأحكام الأسرة. وفي حالة اختلاف الزوجين هناك أحكام للقضاء، فإذا رغبا في الانفصال فهناك أحكام للطلاق، فإذا مات أحدهما فهناك أحكام للجنائز، ثم هناك تفصيل للميراث ... وهكذا إلى درجة أنك لا تصل إلى طريق مسدود. فهذا هو الشمول والكمال.
ثانياً: الواقعيّة
يُقسم الدين إلى عقيدة وشريعة؛ أما العقيدة فهي الجانب النظري الإخباري من الدين. وأمّا الشريعة فهي الجانب العملي منه. وعليه فواقعيّة العقيدة تعني مطابقة الفكرة للواقع، أي صدقيّتها. ومن معاني واقعيّة العقيدة الإسلاميّة أنّها تراعي فطرة الإنسان وقدراته العقلية فلم تكلفه بما لا يطيق عقله. من هنا نجد أنّ أساسيات العقيدة الإسلامية تُدرك ببساطة من قِبل الصغير والكبير، والعالم وغير العالم، ولا يضطر المسلم إلى أن يسلك متاهات الفلسفة ليقيم الدليل على صدق عقيدته؛ فالله واحد سميع عليم بصير...الخ.
أما واقعيّة الشريعة، فمن معانيها أنها تنطلق في معالجاتها من فطرة الإنسان، على نقيض المدارس المثاليّة التي تكلف الإنسان ما لا يطيق، وعلى نقيض المدارس الماديّة العبثيّة التي لا تراعي خَلق الإنسان وخصائصه وفطرته.
فعنما قسّم الإسلام الميراث، مثلاً، راعى الفطرة وواقع الإنسان، على نقيض ما نجده اليوم في المجتمعات العلمانية. وعندما شرّع الطلاق راعى الفطرة وواقع الإنسان أيضاً، على نقيض الشرائع التي حظرت الطلاق بحجة المحافظة على الأسرة.
ومما يجدر التنبيه إليه أنّ الإسلام جاء ليغيّر من الواقع السلبي. من هنا نجد أنّ الإسلام يرفض إقرار الواقع المنحرف عن الفطرة، ويعمل على الارتقاء بالناس إلى واقع ينسجم مع أصل الفطرة. أما الفلسفات المعاصرة فاللافت أنها تُشرّع للواقع بغض النظر عن ارتقائه أو انحطاطه. وعليه، فالواقعيّة التي تعني إقرار الواقع بسلبياته وإيجابياته هي واقعيّة مرفوضة إسلامياً.
قضايا للنقاش:
واقعيّة العقيدة الإسلاميّة في مسألة توحيد الخالق.
واقعيّة الشريعة الإسلاميّة في مسألة إباحة تعدد الزوجات.
ثالثاً: الوسطيّة والتوازن
الوسطية تعني الخيريّة، فلا إفراط ولا تفريط؛ فالشجاعة وسط بين التهوّر والجبن. والكرم وسط بين البخل والتبذير. وقد جاء في القرآن الكريم في الآية 29 من سورة الإسراء:" ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط"؛ فهذه وسطيّة فيها توازن.
وورد في صحيح البخاري:" جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي، عليه السلام، فلما أخبروا كأنّهم تقالّوها فقالوا: أين نحن من النبي، صلى الله عليه وسلم، قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال:" أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" . وهذه أيضاً وسطية فيها توازن، ثم هي واقعية تراعي حاجات الإنسان الفطرية.
وقد وازن الإسلام في تشريعاته بين ثنائيّات منها: العقل والقلب، والمادة والروح، والدنيا والآخرة، ومصالح الفرد ومصالح المجموع، كل ذلك في وسطيّة متوازنة. وإليك هذه المقارنة بين وسطيّة الإسلام وتوازنه من جهة، وتطرف الفكر البشري وعدم توازنه من جهة أخرى:
1) الفلسفة: تركيز على العقل وإهمال للقلب.
مدارس التصوف المختلفة: تركيز على القلب وإهمال للعقل.
الإسلام: العقل والقلب معاً.
2) المدارس المادّية: تركيز على الحياة الدنيا.
النصرانية ومثيلاتها: تركيز على الآخرة.
الإسلام: وحدة الدنيا والآخرة.
3) المدارس المادّية: تركيز على المادّة.
المدارس الروحية: تركيز على الروح.
الإسلام: توازن بين الروح والمادة.
4) الرأسمالية: تركيز على الفرديّة.
الاشتراكيات: تركيز على الجماعيّة.
الإسلام: موازنة بين مصالح الفرد ومصالح
المجموع.
معنى آخر للتوازن:
لدينا لوح من الخشب تمّ وضعه على قاعدة مُدببة، ومن أجل توازنه جعلنا نقطة الارتكاز في مركز لوح الخشب. فإذا قمنا بالضغط على نقطة الارتكاز يبقى التوازن قائماً، وكلما ابتعدنا عن المركز نحتاج إلى التخفيف من الضغط حتى يبقى التوازن قائماً. ولا شك أنّ أبعد نقطة عن المركز قد لا تحتمل أي نوع من الضغوط وإلا اختل التوازن.
وفي عالم الفكرة: إذا قمنا بإعطاء القضايا المركزيّة والأساسيّة اهتماماً أكبر، وقمنا في المقابل بإعطاء القضايا الهامشيّة اهتماماً أقل، بحيث يتناسب ذلك مع بعدها عن المركز، نكون بذلك قد أحدثنا توازناً في التعامل مع الأمور
المختلفة. أمّا إذا عاملنا الأمر الهامشي كما نعامل المركزي فإنّ التوازن عندها يختل لصالح الأمور الهامشيّة.
رابعاً: الثبات والمرونة
العقيدة ثابتة، لأنّها أخبار، والخبر الصادق ثابت. ومن علامات الكذب عدم ثبات الخبر في المسألة الواحدة. أما الشريعة فهي ثابتة في الأسس، وهي أيضاً مرنة لكونها تفتح باب الاجتهاد. ومن اللافت أنّ النصوص الشرعيّة منها ما هو قطعي في دلالته فلا يحتمل أكثر من معنى، وبالتالي لا يحتمل الاجتهاد، ويغلب أن يكون ذلك في النصوص التي تُشرّع أساسيات العقيدة والشريعة. في المقابل هناك نصوص تحمل دلالات مختلفة، وبالتالي فهي قابلة للاجتهاد والاستنباط والتفريع.
ولا تقتصر المرونة على قابلية الاجتهاد، بل نجد أنّ تقسيم الأحكام الشرعيّة إلى فرض، وواجب، ومندوب، وحرام، ومكروه، ومباح، فيه مرونة ورحمة بالإنسان. وكذلك الأمر في تشريع الرخص التي تستجلبها الظروف والأحوال؛ فتشريع الصيام في رمضان، مثلاً، لا يعني أنه يجب الصيام في كل الظروف والأحوال. وفرض الحج على كل مسلم مرهون بالاستطاعة ... الخ.
قضية للنقاش:
في نظام الحكم الإسلامي هناك بعض الثوابت، وهناك بعض المتغيرات.
خامساً: العموم والعالميّة
فالإسلام نزل لكل فئات الناس، بغض النظر عن طبقاتهم، وهو أيضاً للبشرية جمعاء إلى يوم القيامة؛ جاء في الآية 28 من سورة سبأ:" وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ..."، وجاء في الآية 158 من سورة الأعراف:" قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ...".
أما قبل نزول الإسلام فقد كانت الرسالات خاصّة، وذلك نظراً لحاجة المجتمعات إلى ذلك في طفولتها وصباها. وعندما قاربت الأمم أن تبلغ رشدها جاءت الرسالة العامّة. وبمضي الوقت أدّت الخصوصيّة في الرسالات، بالإضافة إلى غفلة الناس عن الدين الحق، إلى ظهور فكرة شعب الله المختار، والتي عادت فانقرضت إلا ما بقي عند اليهود من مخلّفات هذه العقيدة.
وقد تميّز الإسلام عن باقي الأديان بأنّ خطابه موجّه إلى كل فئات الناس وطبقاتهم. أمّا باقي الملل فنجدها تجعل الناس طبقات، وتؤمن بالكهنوت ورجال الدين، ويختلف خطابها الديني من طبقة إلى أخرى؛ فرجل الدين يُطلب منه الكثير من الالتزامات التي لا تطلب من غيره، وهذا يجعله متميزاً أيضاً على غيره من فئات الناس. ومثل هذا الأمر يعزز وجود الطبقات التي يتسلط بعضها على بعض.
سادساً: الإيجابية
أي أنّ الآثار المترتبة على الإيمان بالفكرة الإسلاميّة، والمترتبة على ممارستها، هي آثار طيبة ونافعة ومجدية. ويمكن من خلال إبراز هذه الخصيصة أن تتحصل لدى الكثيرين القناعة بالفكرة الإسلاميّة، لأنّ الغالبية من الناس تُحاكم الأفكار على ضوء نتائجها وآثارها المحسوسة. واليوم نجد أنّه يسهل على الناس أن يحكموا على الفلسفة الغربيّة من خلال الواقع الاجتماعي وما ينبثق
عنه. مع ملاحظة أننا لا نتكلم عن العلم وما نتج عنه من تكنولوجيا، لأنّ العلم وما نتج عنه هو أمر عام لا يخص أمة أو حضارة بعينها.
قضية للنقاش:
كيف نُعلل وفرة الإنتاج وسوء التوزيع في المجتمعات الرأسماليّة الغربيّة؟
كيف نُعلل ظاهرة الأسر التي لا تجد لها بيوتاً وتعيش في قارعة الطريق في الكثير من الدول الرأسماليّة على الرغم من تقدمها وغناها.
النقلة النوعية التي أحدثها الإسلام:
جاء في سيرة ابن هشام، وذلك عند الحديث عن هجرة المسلمين إلى الحبشة، عندما استدعى النجاشي المسلمين ليسمع منهم، فكان جعفر بن أبي طالب، رضي الله عنه، هو المتحدث باسمهم. وكان مما قال:" أيها الملك، كنّا قوماً أهل جاهليّة؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيءُ الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف؛ فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا، نعرفُ نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان. وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء. ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات. وأمرنا أن نعبد الله وحده، ولا نشرك به شيئاً ...".
بعض ما يستفاد من هذا النص:
1. لم يقم جعفر، رضي الله عنه، بتعريف الإسلام وتعديد أركانه، وإنّما أسهب في الحديث عن النقلة النوعية التي أحدثها الإسلام. وهذه أقصر الطرق إلى عقول الناس وقلوبهم.
2. إنّ ما حصل من تغيير في واقع العرب والبشريّة بعد نزول الإسلام هو في الحقيقة خرق للعادة لم تشهد البشريّة له مثيلاً من قبل ولا من بعد. بل يمكن اعتباره من وجوه إعجاز الرسالة الإسلاميّة.
3. إنّ عظمة الفكرة لا تكمن في صحتها واستنادها إلى المنطق السليم فقط، وإنما في فاعليتها وآثارها، وقدرتها على نقل الناس من واقع سلبي إلى واقع إيجابي.
بعض مجالات هذه النقلة:
1. النقلة المعرفيّة: من أجل إحداث تغيير جوهري لا بُدّ من الارتقاء المعرفي، ولا بد من تصحيح الأخطاء العلميّة. عندها سينعكس ذلك في واقع الناس في كافة المجالات وعلى رأسها الجانب العقَدي؛ فعندما تحدّث القرآن الكريم عن بعض مظاهر الكون، وأعطى فكرة صحيحة عن حقيقة الشمس والقمر والأفلاك، ساعد ذلك في تغيير اعتقادات الناس المتعلقة بهذه الأجرام.
2. النقلة العقديّة: نزل الإسلام على مدى 23 سنة، منها 13 سنة في مكة. ويُلحظ أنّ القرآن المكي يركّز بالدرجة الأولى على الجانب العقدي، والذي لا ينفصل عن المعرفي، واستمر هذا الاهتمام في المرحلة المدنيّة أيضاً، مما يشير إلى ضرورة التغيير في الأسس العقدية حتى نتمكن من إحداث نقلة نوعيّة وجوهريّة، لأنّ الجانب العقدي يُشكل الأساس الذي يقوم عليه البناء الفكري لأي أمة من الأمم، وهو أيضاً المؤثر الأساس في الجانب السلوكي. أي أنّ الجانب العقدي ينعكس على كل جوانب الحياة.
3. النقلة الأخلاقيّة: وهي تستند بالدرجة الأولى إلى التصورات العقديّة. ولا تكفي القناعات لتحقيق نقلة أخلاقية، بل لا بد من سلطة إلزام تتسلّط على الضمير فتوجّه السلوك، وهذا لا ينجح إلا إذا قام على أساسٍ ديني، فيه بُعد أخروي.
4. النقلة التشريعيّة: وهي تستند أيضاً إلى الجانب العقدي. وقد كانت النقلة في هذا المجال كبيرة إلى درجة أنّ الكتّاب المعاصرين، وعلى وجه الخصوص العلماء بالقوانين والتشريعات، يعتبرون التشريع الإسلامي من أهم وجوه الإعجاز في الرسالة الإسلاميّة.
5. النقلة في منهجيّة التفكير: إنّ النقلة الهائلة التي حدثت في الجانب العلمي والمعرفي لا ترجع في جوهرها إلى كم المعلومات والمعارف التي جاء بها القرآن الكريم بقدر ما ترجع إلى تأثيره في منهجيّة التفكير. ومن أراد أن يراجع التاريخ، ليبحث عن أساس الانفجار المعرفي والعلمي في العصور الأخيرة، فسيجد أنّ ذلك يرجع في الأساس إلى لحظات نزول " إقرأ باسم ربك الذي خلق ... ". وليس هناك من مسار تاريخي آخر يمكن السير فيه لاستكشاف مصدر النبع الأول لنهر العلوم والمعارف المعاصرة.
ولمزيدٍ من التوضيح إليك هذا المقتبس من كتابنا: (نظرات في كتاب الله الحكيم) تحت عنوان القرآن ومنهجيّة التفكير:
" القرآن الكريم يزيد قليلاً عن 77 ألف كلمة، وهذا يعني أنّه يعادل كتاباً من 300 صفحة تقريباً. ومثل هذا الحجم لا يتضمن، في العادة، الكثير من المعلومات والمعارف والخبرات. وعلى الرغم من ذلك، فقد أحدث القرآن الكريم تغييراً هائلاً وجذرياً في مسيرة البشريّة الفكريّة والسلوكيّة، مما يجعلنا نتساءل عن سر الانطلاقة الفكرية التي حدثت بعد نزوله. وظاهر الأمر أنّ السر لا يكمن في الكم الهائل من المعلومات، لأنّ مقدار 300 صفحة لا يكفي في العادة لإعطاء إلا القليل من المعلومات. والذي نراه أنّ السّر يكمن في المنهجيّة التي يكتسبها كل من يتدبر القرآن الكريم.
عند تَصفُّح أي كتاب نجده في الغالب يتسلسل في الفكرة والمعلومة من البداية حتى النهاية. ويرجع هذا الأمر إلى رغبة الكاتب في إعطاء القارئ المعلومات والخبرات. ولكن من يتصفّح القرآن الكريم يلاحظ أنّ اكتشاف التسلسل يحتاج إلى تفكّر وتدبّر. من هنا نجد أنّ غير العرب يشعرون عند قراءة ترجمة القرآن الكريم بأنه غير مترابط في كثير من المواقع. ويرجع هذا إلى أنّ القرآن الكريم يخالف في صياغته مألوف البشر، ثمّ إنّ كلماته المعدودة تحمل المعاني غير المتناهية. ولا ننسى أنّ إعجاز القرآن الكريم يرجع بالدرجة الأولى إلى لغته، وبيانه وإيجازه…وأنّ فهمه يحتاج إلى تدبّر. ويُلحظ أنّ من يعتاد تدبّره تنشأ لديه منهجيّة في التفكير والاستنباط. وإذا وُجدت هذه المنهجيّة أمكن أن يوجد الإنسان المبدع. وكل من يتعمق في تدبّر القرآن الكريم ودراسته يلمس الترابط بين معاني كلماته، وجُمله، وآياته، بل وسوره. ولا يزال علماء التفسير يشعرون بحاجتهم إلى التعمق أكثر من أجل إبصار معالم البنيان المحكم للألفاظ والجمل القرآنيّة.
العلوم المنهجيّة أولاً:
الدارس لتاريخ الفكر الإسلامي يلاحظ أنّ ظهور علم أصول الفقه، وعلم أصول الحديث، وعلم الكلام، وعلم النحو والصرف،... كل ذلك كان قبل ظهور علوم مثل؛ الطب، والصيدلة، والكيمياء، والبصريات…وغيرها من العلوم. من هنا، فقد ظهر العلماء والفقهاء واللغويّون من أمثال مالك، والشافعي، والخليل بن أحمد، قبل ظهور الرازي وابن سينا وجابر بن حيّان... وغيرهم. وهذا أمر بدهي؛ فعلم أصول الفقه هو علم في منهجيّة الاجتهاد والاستنباط، وعلم أصول الحديث هو علم في منهجيّة البحث التاريخي، وعلم النحو هو علم قائم على منهج الاستقراء، وعلم الكلام هو الأساس الفلسفي للفكر الإسلامي.
لقد أدّى التطور في منهجيّة التفكير لدى المسلمين إلى ظهور العلوم المختلفة؛ فكانت البداية تتعلّق بالأسس المنهجيّة، ثم كانت الثمار المتمثلة بالعلوم المختلفة، ومنها العلوم الكونيّة. ويمكننا اليوم أن نقسّم تاريخ الفكر البشري إلى مرحلتين؛ مرحلة ما قبل الإسلام، ومرحلة ما بعد الإسلام؛ حيث تميّزت المرحلة الثانية بمنهجيّة مستمدة من القرآن الكريم، أدّت إلى نهضة فكريّة وعلميّة هائلة أفرزت في النهاية الواقع العلمي المعاصر، إذ من المعلوم أنّ الغرب قد تتلمذ على المسلمين، وعلى وجه الخصوص في الأندلس وجامعاتها، إلى درجة أنّهم لم يعرفوا آباء الفلسفة الغربية من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو... وغيرهم من الفلاسفة اليونانيين، إلا من خلال ترجمات علماء المسلمين.
التدبّر يورث المنهجيّة:
إذا كان القرآن الكريم قد طوّر منهجيّة التفكير لدى الصحابة والتابعين وأتباعهم… فلماذا لا يؤثر اليوم في منهجيّة التفكير لدى كثير من المسلمين، على الرغم من كونهم يتلونه صباح مساء؟!
للإجابة عن هذا التساؤل نقول: اللافت للانتباه أنّ الغالبيّة الساحقة ممن يقرأ القرآن الكريم اليوم لا تزيد على أن تتلوه بصوت مسموع، أو بشفاه متحركة، ويندر أن نجد من يقرؤه متدبراً لمعانيه، متفكراً في مُشكلاته؛ إذ لا تتشكّل منهجيّة التفكير لدينا إلا عند تسريح الفكر في معانيه، وتراكيبه وأساليبه وتصريفاته…
والدارس لتاريخ التفسير والفقه، ومناهج المفسرين والفقهاء، يدرك أنّ بوادر هذه المنهجيّة قد تجلّت لدى المفسرين والفقهاء المجتهدين. أي لدى الذين تعاملوا بعمق مع النص القرآني الكريم. وحتى يتحقق الأثر المنشود على مستوى مناهج التفكير، لا بد من أن نضيف إلى تلاوة القرآن الكريم التدبّر. بل لا بد من تقديم التدبّر على التلاوة، والفهم على الحفظ. ولسنا نقلل من أهميّة التلاوة والحفظ؛ فالمتدبّر الحافظ هو أقدر من غيره على النظر بشمول إلى القرآن الكريم، وهو الأقدر على تفسير القرآن بالقرآن، ثم هو الأقدر على الملاحظة والربط....وفوق ذلك كله يبقى الحفظ عن ظهر قلب من مقاصد التربية القرآنيّة.
الصحابة والقرآن:
عندما كان الصحابة والتابعون، رضوان الله عليهم، وهم أهل اللغة والبيان، يتدبّرون القرآن الكريم، فيشكل عليهم، يأخذ ذلك حظاً من تفكيرهم، ويلجأ بعضهم إلى بعض يتشاورون؛ فهذا معاوية، يدخل عليه عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، فيقول معاوية: "لقد ضربتني أمواجُ القرآن البارحة، فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك"، ويعرض عليه آية من الآيات التي استشكلها، فيبيّنها عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما. وهذا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وفي أكثر من موقف، يجمع الصحابة ويناقش معهم معنى آية كريمة أو أكثر. أما اليوم، فيكتفي الكثير من الناس، عند استشكال معنى آية من الآيات، بالرجوع إلى كتابٍ من كتب التفسير. ويندر أن يتمّ الرجوع إلى أكثر من كتاب في التفسير، ويندر أيضاً أن تتم مناقشة ذلك مع آخرين للتوصل إلى فهم أفضل. فلا عجب بعد ذلك أن لا تتشكل عند الكثيرين منا المنهجيّة المأمولة. في المقابل لا عجب أن يتأثر الصحابة والتابعون بالقرآن الكريم، ثم تتشكّل لديهم المنهجيّة في التفكير، فيظهر أثر ذلك فيما تحصّل من تطوّر سريع ومتصاعد على مستوى الفكر والمعرفة ومناهج البحث والعلوم المختلفة، حتى بلغ كل ذلك أوجهُ في القرن الرابع الهجري.
المنهجيّة وتقسيمات القرآن الكريم:
قلنا إنّ عدد كلمات القرآن الكريم يزيد قليلاً عن 77 ألف كلمة، وهذا يعادل 300 صفحة. ويتألف القرآن الكريم من 114 سورة، منها السور الطويلة ومنها القصيرة. ولا تزيد أطول سورة عن 24 صفحه، في حال كون كل صفحة تتألف من 260 كلمة. في المقابل تتألف أقصر سورة من عشر كلمات. أما باقي السور، فهي بين ذلك طولاً وقِصراً. وتتألف كل سورة من عدد من الآيات. وإذا عرفنا أنّ متوسط عدد كلمات الآية الواحدة هو 12.4 كلمة، وأنّ بعض الآيات تتكون من كلمة واحدة أو كلمتين، تبيّن لنا أنّ هذا الأسلوب يختلف عما اعتاده البشر في كتاباتهم.
في أكثر من مّرة أعرضنا عن شراء كتب نفيسة بسبب أسلوب العرض فيها؛ حيث السرد المتواصل، فلا تبويب، ولا فقرات، ولا علامات ترقيم... ولو عُرِضت علينا مثل هذه الكتب بالمجّان لترددنا في أخذها، لعِلمنا أنّها ستأخذ من مساحات رفوف المكتبة، ولعِلمنا بأن لا دافعيّة لدينا لقراءَتها، بل إنّ القراءة فيها ضرب من المعاناة. وقد تُفاجأ بعد حين بهذا الكتاب نفسه وقد أُخرِج بثوب جديد، وقُسّم إلى فُصول وأبواب، وازدان بالعناوين الواضحة والفقرات القصيرة، ولوّنت فيه بعض العبارات الهامّة، ووضعت الفواصل والحدود بين الفصل والفصل، والباب والباب، والفقرة والفقرة، والجملة والجملة... نعم، فبإمكاننا الآن أن نركز على التفاصيل، وأن نُلمّ بكُلّ صغيرةٍ وكبيرة؛ فقد أصبح الوضوح نوعاً من الجمال الجذّاب، والمتعة الدافعة. فلا بُد من الفصل والتحديد، حتى يتسنّى للقارئ أن يركّز ويميّز. ألا ترى أنّ القرآن الكريم يتألّف من 114 سورة، وكل سورة هي عدد من الآيات؟! فهل من قبيل الصدفة أن تسمّى (السورة) سورة؟! فكلمة سورة تذكِّرُنا بالسُّور، الذي يفصل بين قطعة أرضٍ وأخرى وبيتٍ وآخر. وهل من قبيل الصّدفة أن تسمّى الآية آية؟! فهذه الكلمة تُذكرنا بالعلامة الواضحة، والتي يُشكّلُ وُضوحها دليلاً، هو في النهاية حجّة وبرهان.
وقد يكون هذا المنهج في العرض من أسرار تأثير القرآن الكريم. والمتدبّر يلاحظ أنّ الآيات المكيّة غالباً ما تتسم بالقصر، في حين أنّ الآيات المدنية، إجمالاً، تتسم بالطول النسبيّ. ومعلوم أنّ التركيز في المرحلة المكيّة كان على الجانب العَقَديّ. وهذا يعني أنّ طرح العقيدة يحتاج إلى الأفكار المركّزة والسريعة، بعيداًَ عن التطويل والتفريع. وهذا يرشدنا إلى اعتماد أسلوب الشِّعار في الدعوة إلى الأفكار والعقائد؛ فذلك أسرع في تبليغ الفكرة وتعميمها ويجعلها أسهل وأسرع تناولاً. أما أسلوب الفلاسفة، فلا يصلح إلا لفئة قليلة متخصصة.
من ينظر في سورة الإخلاص، مثلاً، يلاحظ أنها شعار واضح ورسالة سريعة وحاسمة، تجلجل بعقيدة التوحيد: "قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد". وهذا يرشدنا إلى المنهجيّة التي يجدر بنا أن نتبعها عند مخاطبة عامّة الناس وعند الدعوة إلى الفكرة والمبدأ. ويدعونا ذلك أيضاً إلى الاستفادة من منهجيّة القرآن المكي والمدني، لتوظيفها في مخاطبة الناس، بحيث يكون لكل مقامٍ مقال.
أولوية المنهجيّة:
غالباً ما يهدف الكُتّاب في كتاباتهم إلى تزويد الناس بمعلومات وخبرات جديدة. لذلك فهم يتسلسلون في الأفكار من البداية وحتى النهاية. ومن ذلك تتسلسل الأبواب والفصول. ويكون ذلك واضحاً غاية الوضوح وإلا عُدّ عدم التسلسل خللا وقصوراً. وهذا أمر مفهوم في العمل الذي يُقصد به نقل المعلومة والخبرة. أمّا إذا أردنا الحث على التفكير والتدبّر وخلق المنهجيّة السويّة في التفكير والبحث والاستنباط، فإنّ أسلوب العرض يجب عندها أن يختلف؛ فلا نعود بحاجة إلى التسلسل الواضح، بل نكون بحاجة إلى التسلسل الذي يجتهد القارئ في اكتشافه.
عند تدبّر القرآن الكريم نقوم أولاً بتدبّر آية ثم آية أخرى. فإذا فهمنا معانيها يصبح من السهل علينا بعد ذلك أن نربط بين الآيات. ويُفترض بعدها أن نلاحظ أنّ آيات السورة جاءت في مجموعات. وإذا فهمنا معاني المجموعة الأولى، ثم المجموعة الثانية، أمكن أن نربط بين معاني المجموعات. وبعد أن ننتهي من فهم سورةٍٍ كآل عمران، مثلاً، نقوم بتدبر سورة النساء. فإذا فهمناها؛ كلمات وجُملاً وآيات ومجموعات، أصبح بإمكاننا أن نربطها بسورة آل عمران التي تسبقها في ترتيب المصحف. ولا يسهل علينا أن نربطها بسورة المائدة، التي تليها، حتى نتدبر سورة المائدة أيضاً، وذلك في مستوى الكلمات والجمل والآيات والمجموعات. وكمال الفهم للسورة الأولى، و كمال الفهم للسورة الثانية، يؤدّي ذلك كله إلى استكشاف الروابط والصلات بين السورتين،...الخ. وتكون المفاجأة عندما نكتشف أنّ القرآن يفسر القرآن، فيتجلّى لنا بناءاً متكاملاً متراصاً. وسيبقى الإنسان ينظر في تفاصيل هذا الكتاب العظيم من أجل تصوّرٍ أفضل لحقيقة بنائه، تماماً كما يفعل وهو يحاول أن يفهم حقيقة بناء الكون البديع.
المنهجيّة والقصص القرآني:
المتدبر للقرآن الكريم يلحظ أنّ بعض القَصص القرآني يتكرر في أكثر من سورة. والذين يظنون أنّ القرآن الكريم نزل ليزوّد الناس بمعلومات ومعارف قد يرون في هذا التكرار ظاهرة غير إيجابية. وهم بذلك إنما يذهلون عن حقيقة أنّ القرآن الكريم يُربّي الناس تربية شاملة، ومن ذلك تربيتهم على منهجيّة التفكير. والملحوظ أنّ القَصص القرآني يختلف عن القصص البشري، الذي يغلب أن يكون سرده متسلسلاً ومفصّلاً. بل هو، إن صحّ التعبير، لقطاتٌ قد تطول قليلاً وقد تقصُر. ولكنها إن طالت تبقى في إطار القصة القصيرة، بل القصيرة جداً. أما التكرار في القصة القرآنيّة فإنّه ظاهري يتوهمه من يتلو القرآن الكريم من غير تدبّر. أما أهل التدبّر فيعلمون أن لا تكرار إلا في الشكل، أما في الجوهر فلا تكرار. من هنا نجد من المناسب أن نلفت الانتباه إلى الآتي:
1. تكرار القصة القرآنيّة لا يعني أنّها تتكرر بتفاصيلها؛ بل قد تزيد في بعض التفاصيل والحيثيّات وقد تنقص.
2. تختلف السياقات التي يتكرر فيها القَصص القرآني، مما يعني أنّ المعنى المستفاد يختلف باختلاف السياق.
3. تُستبدل بعض المفردات أو الجُمل بغيرها، ويكون تقديم وتأخير في الألفاظ والجُمل. ويختلف الجَرْس، وتختلف الموسيقى، وتختلف فواصل الآيات.
4. تختلف أهداف القصة القرآنيّة عن أهداف القصة في كتابات البشر. من هنا تتعدد المقاصد عند تكرار القصة.
5. إنّ الأسلوب القرآني في التكرار يُطوّر في منهجيّة التفكير لدى المتدبّر، لأنّه يساعد على ملاحظة الأنماط المحتملة، والصيغ التي يمكن أن تتعدد، والتغييرات المطلوبة لتحقيق الانسجام مع السياق من حيث الجوهر، ومن حيث الشكل البلاغي الذي لا بد أن تتجلى فيه المعاني. ثم هو يعين على تصوّر البدائل الممكنة، والاحتمالات المُدّخرة.
الذي خلق هو الذي أنزل:
تتألف المادة من: إلكترونات، وبروتونات، ونيوترونات. ومجموع هذا يسمّى ذرّةً، ومجموع الذّرات يسمّى جُزيئاً، ومجموع الجزيئات يسمّى مُركّباً. ومن هذه الذرات والجزيئات والمركبات تكون التنوعات التي تبدو لا متناهية. ولو أخذنا عنصر البوتاسيوم، كمثال، فسوف نجد أنّ اختلاف نسبة هذا البوتاسيوم في النباتات المختلفة يؤدّي إلى اختلاف الأطعام. ولا يقال إنّ طعم الموز، مثلاً، هو نفسه طعم التفاح على اعتبار أنّ مردّه إلى البوتاسيوم، فقد أدّى اختلاف نِسَب البوتاسيوم إلى اختلافٍ كبير في المذاق. وإذا تعمّقنا أكثر نجد أنّ مكونات التفاحة هي في الحقيقة إلكترونات وبروتونات ونيوترونات، وهذه هي نفسها مكونات الحديد، والنحاس...
فالتكرار في عالم المادّة هو الأساس الذي يقوم عليه كل التنّوّع والثراء الذي يتصف به الوجود. وإذا كان تكرار الكلمة لا بد منه وتكرار الجملة لا بأس به، فإنّ لتكرار القصة فوائد كثيرة؛ حيث يؤدّي ذلك إلى ظهور أبنية جديدة، ويولّد صوراً متنوعة، ويلهم آفاقاً رحبة، ويكشف عن دروس غنيّة، ويخلق منهجيّه في التفكير والاستنباط.
وعليه فإنّ المطلوب هنا هو تركيز الاهتمام بالنص القرآني من أجل محاولة استكشاف الأنماط التي تؤسس لمنهجيّة سويّة في التفكير". ا.هـ
العرب والإسلام
يُقدّر بعض أهل التاريخ زمن إبراهيم، عليه السلام، بما يقارب سنة 1800 ق.م . ومعلوم أنّ إبراهيم، عليه السلام، قد وُلِد له إسماعيل وإسحق، عليهما السلام. أما إسماعيل فقد كان رسولاً لأهل الجزيرة العربيّة. واللافت أنّه لم يُعرف في العرب نبي ولا رسول بعد إسماعيل، عليه السلام، إلا محمد، صلى الله عليه وسلم. وبين محمد وإسماعيل، عليهما السلام، ما يقارب الـ 2400 سنة. في المقابل نجد أنّه خلال 1800 سنة، وهي المدّة من إبراهيم حتى عيسى، عليهما السلام، قد جاء من نسل إسحق، عليه السلام، عدد كبير من الأنبياء والرسل أمثال: موسى، وداود، وسليمان، وإلياس، واليسع، وزكريا، ويحيى، وأيوب، وآخرين لم يذكر القرآن الكريم أسماءهم.
إنّ هذه التجربة التاريخيّة تُثبت أنّ الأمة العربيّة، التي كانت تسكن الجزيرة العربية، محصنة أكثر ضد عوامل الانحراف والانحلال، ومن هنا استحقت بجدارة أن تحمل رسالة الإسلام. جاء في الآية 124 من سورة الأنعام:" ... الله أعلمُ حيث يجعلُ رسالته ..." .
يرى الأستاذ محمد المبارك، في كتابه: (الأمة العربيّة في معركة تحقيق الذات)، أنّ العرب، قبل الإسلام، كانوا يتميّزون على غيرهم من الأمم بنمو الجانب العقلي، وبخلق يقدّر القيم المعنويّة. وإليك توضيح ذلك:
1. نمو الجانب العقلي: ينبغي التنبيه هنا إلى أنّ النمو العقلي غير مرتبط بالنمو العلمي والتكنولوجي؛ ففيلسوف مثل أرسطو كان يتميّز بنمو الجانب العقلي ولكنه لم يبلغ في علومه ما عند صبي يعيش في زماننا
هذا. وإذا كان بإمكاننا أن نقدّر مستوى النمو العقلي لشخص ما بالإصغاء إليه عندما يتكلّم، فإنه بإمكاننا اليوم أن ننظر في الشعر الجاهلي فنرى تجليات النمو العقلي عند العرب قبل الإسلام. وعندما نعلم أنّ العرب كانت تلتقي في أسواق أدبية، وأنّهم قد بلغوا في البلاغة والقدرات النقديّة مبلغاً عظيماً، ندرك أنهم كانوا قد غادروا المرحلة الحسيّة من التفكير وأصبح تفكيرهم مجرداً؛ أي أصبحوا قادرين على التعامل مع عالم المعنى والفكر النظري.
2. تقديرهم للقيم: من يقرأ تاريخ العرب في الجاهلية يدرك أنّهم كانوا يُقدّسون القيم الأخلاقيّة، وهذا واضح في تاريخهم الفكري والأدبي. وقد تميّزوا على باقي الأمم بالكرم والشهامة والفروسيّة والتضحية ...
على الرغم من ذلك كله ما زلنا نصفهم بالعرب الجاهليين. فما حقيقة جاهليتهم؟!
كانت جاهليتهم في أمور منها:
1. تصوراتهم العقديّة، وممارساتهم العباديّة.
2. مبالغاتهم في تقدير القيم؛ فلم يكن وأد البنات، مثلاً، نابعاً عن انحلال خلقي، بل كان الدافع إليه الحساسيّة الشديدة تجاه قيم الشرف. وحروب الثأر أيضاً كان الدافع إليها الوفاء، والأنفة من الذل والاستكانة.
3. بعض العادات السلبيّة؛ فأخلاقهم، مثلاً، تأبى أن تزني المرأة الحرة، ولكنهم يقبلون ذلك للأَمة المستعبدة. وهم لا يرون في زنا الرجل عاراً. ولم يكونوا يورّثون المرأة. وغير ذلك من العادات، التي نجدها في كثير من الأمم حتى يومنا هذا.
الدين جعلهم أمة:
المعروف تاريخيّاً أنّ الجزيرة العربية لم تشهد، قبل الإسلام، قيام دولة تجمع العرب في كيان سياسي واحد، وإنما كان ذلك، أول ما كان، على يد النبي، صلى الله عليه وسلم. وإذا كان ذلك كذلك، فما الذي كان يُشعر العرب بأنّهم أمّة؟!
إنّه الدين، وإنها القِبلة الواحدة؛ فمن إسماعيل حتى محمد، عليهما السلام، اعتاد العرب أن يجتمعوا في مكة مرّة واحدة في العام، على أقل تقدير. وحتى عندما انحرفوا، فعبدوا آلهة متعددة، وجدناهم يُحضرون هذه الأصنام فيضعونها في الكعبة. وقد أدّى اجتماعهم لما يقارب الـ 2400 سنة إلى وجود لغة مشتركة يفهمها كل العرب، سُميت فيما بعد بلهجة قريش. وأدّت اللغة المشتركة هذه إلى اجتماعهم من أجلها في أسواق أدبيّة. فالدين إذن هو الذي صنع منهم أمة ابتداءً، ثم جاء الإسلام فأعاد صياغتهم وجمعهم في نظام فكري وسياسي واحد، فكانوا قادة هداة لم يعرف التاريخ لهم مثيلاً.
كانت مقدّمات لا بد منها:
1. نمو عقلي وتفكير مجرد.
2. تقدير للقيم المعنويّة.
3. لغة أدبية مشتركة ومتفوقة.
4. وعيهم وإدراكهم لحقيقة أنهم أمة.
هذه المقدمات كانت ضروريّة لنزول رسالة الإسلام، وذلك للآتي:
1. القرآن الكريم معجزة فكريّة. وهذا يحتاج إلى نمو عقلي يساعد العربي على فهم الرسالة وبالتالي على حملها إلى باقي الأمم.
2. القرآن معجزة بلاغيّة. وهذا يحتاج إلى أمة متميزة في هذا الجانب، بحيث تقدّر ذلك، وتفهمه، وتتفاعل معه، وبالتالي تكون مُهيّأة لحمل رسالة الإسلام، وتبليغه للناس، كل الناس.
3. حمل الرسالة يحتاج إلى فهم متميز وأخلاقيّة متفوّقة، ومستوى عالٍ من القدرة على البذل والتضحية.
4. رسالة الإسلام رسالة عالميّة جاءت للبشرية جمعاء، وهي تحتاج إلى أمة لتحملها وتستمر في حملها إلى يوم القيامة.
بذلك يتضح أنّ الأمة العربيّة كانت تُصنع في الجزيرة العربيّة، وتُهيّأ لتحمل الرسالة الخاتمة. بل إنّ رسالة إسماعيل، عليه السلام، كانت المقدمة التي قادت إلى النقطة التي التقى فيها قدَر العرب بقَدَر الرسالة الخاتمة. وجاء الواقع ليثبت ويجلّي هذه الحقيقة؛ فلم تعرف البشرية، في كل تاريخها، أمّة هادية تحمل الحقيقة إلى البشرية جمعاء إلا أمة واحدة هي أمّة العرب. ولم يعرف التاريخ أداءً مقارباً لأدائها في التبليغ والاستقطاب. وأنت تعجب من استيعابهم للفكرة، ورغبتهم الشديدة في تبليغها، وقدرتهم الخارقة على اقتحام الحواجز وإسقاط القوى والإمبراطوريّات الظالمة.
لم تنته وظيفة الأمة العربيّة بتبليغها الرسالة في فجر الإسلام، بل هي وظيفة مستمرة باستمرار وظيفة الإسلام، الكائنة إلى يوم القيامة. وستبقى عناصر شخصيتها الأولى قائمة في الأجيال المتعاقبة، مما يجعلها قادرة على النهوض من كبواتها، لتعود إلى فاعليتها الفذّة في عالم الهداية.
لقد استطاع الاستعمار الغربي في القرون الأخيرة أن يحتل الغالبيّة العظمى من بلاد العرب والمسلمين. ولم يقتصر الأمر على الغزو العسكري، بل تعدّاه إلى الغزو الفكري والحضاري. ومما زاد الأمر سوءاً أنّ ذلك كله قد حدث في مرحلة تخلف الأمة، وعلى وجه الخصوص تخلفها في الجانب الفكري والعلمي، فكان من المتوقع أن تُلحق الأمة بثقافة الغرب، لأنّ الهجمة كانت شرسة وشاملة، شُنّت على أمة بدت فاقدة لكل الأسلحة التي تساعدها على المقاومة والتصدّي. بل ظهرت، في بعض لحظات التاريخ، مأخوذة ومبهورة بما لدى الغرب من ثقافة وحضارة.
ثم كانت المعجزة؛ فإذا بالأمة تعود إلى ذاتها الحضاريّة، وتكتشف الإسلام مرّة أخرى، فكأنه تنزّل عليها ثانياً. وكل المؤشرات المعاصرة تقول إنّ الأمة لم تعد في موقع الدفاع عن الفكرة الإسلاميّة، بل باتت تقوم بهجمة مضادة على المستوى الفكري والعقدي، وذلك على الرَُغم من ضعف وسائلها العلميّة والتكنولوجيّة، وتخلُّفها النسبي في عالم المدنيّات. بل لقد غدت متفوقة في المستوى الثقافي والعقدي إلى درجة أن نجد بلداً كفرنسا تتنكر لقيم الديموقراطيّة التي ولدت في ربوعها من أجل أن تحمي ثقافتها من الغزوة المضادة، التي بدأت تُعلن عن نفسها في صورٍ ومظاهر مختلفة. وما قضيّة الحجاب التي أثيرت في فرنسا والغرب إلا بعض إرهاصات تداعي الثقافة الغربيّة أمام الفكرة الإسلاميّة.
لقد دخل الاستعمار الغربي الفلبين والمسلمون فيها أكثريّة، وخرج منها وهم أقلية. ودخل أندونيسيا ونسبة المسلمين 100% والآن تقارب الـ 95%. وقد تكرر ذلك في أكثر من بلد إسلامي، ولكنه لم يحصل قط في أيٍّ من البلاد العربيّة، بل على العكس من ذلك فإنّ نسبة المسلمين في بعض البلاد العربيّة قد زادت. وهذا إن دلّ فإنّما يدل على أنّ العربي المسلم مُحصن أكثر من غيره تجاه كل الغزوات الفكريّة، وهو وإن أصيب وأخذ في لحظات تراجع وعيه، إلا أنّه ما لبث أن عاد إلى ذاته الحضاريّة، وانتفض بعقيدته التوحيديّة. إنّها الشخصيّة المحفوظة بحفظ الرسالة الإسلاميّة.
واليوم يتجلى عجز الغرب الثقافي بلجوئه إلى القوة العسكريّة من أجل محاصرة الفكرة الإسلاميّة. وقد بات يستخدم كل وسائله المتطورة لتشويه صورة الفكرة الإسلاميّة في أذهان الشعوب الغربيّة، في محاولة لإقامة الحواجز التي يمكن أن تصد الحقيقة فلا تصل إلى تلك الشعوب، والتي عانت طويلاً من ظلمات الإلحاد والمادّيات وغدت تبحث عن طوق النجاة الذي باتت تجده في الإسلام. وما الجموع الغفيرة التي تدخل الإسلام في الغرب إلا المقدّمات التي تُرهص بإمكانية تكرار تجربة الإسلام الأولى على يد العرب مرّة أخرى، وهذا قد يفسر لنا بعض دوافع الغرب في حرصه الشديد على محاصرة العرب، ومحاولة تأخير نهوضهم، دون غيرهم من الأمم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق