الثلاثاء، 9 أبريل 2013

مقررات ثانوية السلام الإسلامي:

منهجية الثانوية :



باسم الله الرحمان الرحيم والصلاة على محمدنا وآله والصحب:
كما راعينا في إعداديتنا: بناء قلب وعقل وروح المومن بكيفية عملية نراعي نفس الأهداف لكن بمنهجية أكثر علمية ..وذلك لبناء وعيه المعاصر والمستقبلي...فإعداديتنا كافية ليقوم الطالب بمعظم أعماله بما في ذلك أعمال فقه الإحسان..لكننا نؤهل الطالب ليحمل بمعنى الكلمة رسالته الحضارية وليكون في مستوى التحديات الفكرية والثقافية والعلمية الحالية والمعاصرة فلا يذوب بين الثقافات.. أو يتجمد ويرفضها بكل ظلامية ...لذا راعينا في ثانويتنا كل هذا لنقدم للطالب مدخلا عاما لفكرنا الإسلامي وحضارتنا الإسلامية مع تلميح وجيز يقارن بينهما وبين الفكر المغاير...وذلك ليكون الطالب مؤهلا لكل التدافعات الحضارية القائمة واللاحقة ويكون في مستوى العصر ومستوى المستقبل:بكل علمية وبكل عملية. 

وقد اقتصرنا بكل إيجاز على نفس مواد المستوى الإعدادي:

فقه القرآن .

فقه السنة .
 التربية الروحية .
مادة الوعي الحضاري
وعلم التوحيد

والله من وراء القصد



مقررات القسم الثانوي الأول:

باسم الله الرحمان الرحيم :

فقه العمل بالقرآن الكريم :

علم التوحيد:

التربية الروحية :

الوعي الحضاري :
واللهم صل على محمد والآل والصحب

مقررات القسم الثانوي الثاني:

مقررات القسم الثانوي الثالث:

باسم الله الرحمان الرحيم :

فقه العمل بالقرآن الكريم :
                                                       أدرس كلمات القرآن

التربية الروحية :
                                        فلسفة التصوف عند إبن خلدون
                                             من أخطاء بعض المتصوفة

الوعي الحضاري :
                                                       دورك كمسلم حضاري

                                                مدخل للحضارة الإسلامية

واللهم صل على محمد وآله والصحب

القسم الثانوي الثالث:مدخل للحضارة الإسلامية:

مدخل للحضارة الإسلامية:



لقد اصبحت الصحوة الإسلاميّة حقيقة ملموسة، لا نقول في العالم الإسلامي فقط، بل في كل مكان يوجد فيه تجمّعات للمسلمين. في مقابل ذلك نجد اهتماماً متزايداً من قبل غير المسلمين للتعرف على حقيقة الإسلام. وتولّد عن هذا كله صور كثيرة للحوار مع الثقافات والحضارات الأخرى. وكان لا بد من التأثير المتبادل، وإن كانت الغلبة في التأثير تكون دائماً للحضارة الأقوى والأعرق. وهذا يعني أنّ فرصة الحضارة الإسلاميّة اليوم هي أفضل من الأمس، نظراً لما تتمتع به الحضارة الإسلاميّة من قوة وحيويّة.

نعلم أنّ هذا القول سيلتبس على البعض، لأنّ الحضارة الغربيّة تبدو في نظر الكثيرين الأقوى بما تمتلكه من علم ومال وتكنولوجيا. لذا كان لا بد من إلقاء الضوء على مفهوم الحضارة وركنها الأساسي، أي الثقافة، والتي هي سر القوة أو الضعف في أية حضارة.

الفيزياء والكيمياء والصيدلة... علوم موضوعها الواقع المادي. وهي علوم تتسم بالموضوعيّة إلى حد كبير، فهي غير متأثرة بوجهات النظر الخاصة للعلماء، ولا تختلف باختلاف عقائدهم ومذاهبهم. ويندر أن نلمس أثراً لأية عقيدة من العقائد في هذه العلوم، وعلى وجه الخصوص في المعطيات العلميّة التي هي حقائق. فعلم الرياضيات، مثلاً، أبعد ما يكون عن التأثر بعقائد وفلسفات الرياضيين، وذلك لأنّ عالم الرياضيّات هو عالم الحقائق، وعند الحقيقة تحيّد الثقافة وتحل الموضوعيّة مكان الذاتيّة.

شتان بين واقع علم الفيزياء قبل ألف سنة، وبين واقعه اليوم. فاتساع مساحات الحقيقة في معطيات هذا العلم يجعله غير متأثر بعقائد ومذاهب وخصوصيات الفيزيائيين. ويصدق هذا القول على علم الكيمياء أكثر مما يصدق على علم الفلك، لأنّ مساحات الحقيقة في علم الكيمياء أكبر منها في علم الفلك.

على الرُّغم من أنّ كل معرفة هي علم، إلا أنّ اصطلاح علم يغلب أن ُيطلق اليوم على علوم كالفيزياء والكيمياء والأحياء.. وغيرها من العلوم التي موضوعها المادة وبالتالي فهي عالميّة لا تخص حضارة بعينها، مما يجعلها تنتقل من أمة إلى أخرى من غير تحفّظ أو حساسيّة تجاهها. والملاحظ أنّ هذه العلوم لم تكن يوماً سبباً في اختلاف الأمم وصراعاتها وتحزبها وتحالفاتها، فالاختلاف في معطياتها لا يؤدّي إلى تنازع وأحقاد، ومن السهل أن يلتقي الناس في التصديق بحقائقها لأنّها حقائق، على النقيض تماماً من العلوم الإنسانيّة، التي يغلب أن تنتمي معطياتها إلى عالم الفرضيّات أو النظريّات.

لو بحثنا عن أسباب نشأة الأحلاف، كحلف الأطلسي وحلف وارسو السابق، مثلاً، لوجدنا أنّ الخلاف كان في أساسه عقدي ومذهبي، فهو اختلاف حول مفاهيم مثل مفهوم العدالة ومفهوم المساواة ومفهوم الحرية ... ولم يكن الاختلاف حول قانون فيزيائي، أو معادلة كيميائيّة، أو وصفة طبية ... بل إنّ بعض معطيات العلم تُعتبر أسراراً وقد تباع بأثمان باهظة، على خلاف المفاهيم الثقافيّة والحضاريّة التي يبذل من أجل ترويجها وتصديرها إلى الآخرين الشيء الكثير.

قلنا بأنّ العلوم الإنسانيّة تتأثر معطياتها بشكل كبير بعقائد العلماء ومذاهبهم وتراثهم ... ومن هنا فهي علوم لا تتسم بالموضوعيّة وبالتالي لا يسهل التقاء الناس حول مفاهيمها، ويؤدّي الاختلاف فيها إلى تنازع وتنافر وصراع. ويرجع ذلك إلى موضوع هذه العلوم، فهي قضايا مجردة ومعنويّة بعيدة عن المحسوس. من هنا فهي تتسم بالخصوصيّة، وسيبقى الأمر كذلك إلى أن تصبح نظرياتها حقائق، وهذا أمر يبدو، حتى الآن، بعيد المنال.

هذه العلوم النظرية التي تتأثر بوجهات النظر وتختلف باختلاف العقائد والفلسفات تسمى ثقافة. وأساس ثقافة كل أمة هو الجانب العقائدي والفلسفي. ويدخل في مفهوم الثقافة أيضاً كل ما أنتجه الإنسان في عالم المحسوس وكان في انتاجه ذلك متأثراً بفلسفة الأمة.



الحضارة والمدنيّة:

يمكن أن نُعرّف الحضارة تعريفاً مبسطاً بقولنا: الحضارة هي كل ما أنتجه الإنسان في عالم الفكر والمادة. ونقصد بالفكر العلم والثقافة، كالفيزياء والكيمياء والآداب وعلم التربية... ونقصد بالمادة الجانب المحسوس من الحضارة، أي ما يسمى بالمدنيّة، كالبيت والمصنع والثوب ... فالمدنيّة هي كل ما أنتجه الإنسان في عالم المادة. وإذا كانت المدنيّة متأثّرة بالثقافة تكون عندها مدنيّة خاصّة وتلحق بعالم الثقافة، وإلا فهي مدنيّة عامّة. من هنا تُعتبر الفنون وأنماط البناء والأزياء من الثقافة، فصناعة القماش، مثلاً، مدنية عامّة تقوم على أساس العلم العام، ولكن عندما يتحول هذا القماش إلى زي فإنّه يُصبح مدنيّة خاصّة، لأنّه يتأثر بوجهة النظر الخاصّة، أي بالثقافة. من هنا ندرك أنّ الأزياء ليست مجرد شكل، بل هي في جوهرها تُعبّر عن الثقافة التي تختبئ من وراء الشكل. لذلك نجد أنّ الإسلام ينهى عن التشبّه بأهل الفكر المنحرف حتى في أزيائهم. ويمكننا، على ضوء ما سلف، أن نقول بأنّ الزي الإسلامي هو الزي الذي ينبثق عن الثقافة الإسلاميّة، وبالتالي ينسجم مع قيم الإسلام ومبادئه. وعليه فإن شروط الزي الإسلامي يمكن أن تنطبق على آلاف الأزياء التي قد تختلف من شعب إلى أخر. وما يقال في الزي يقال أيضاً في أنماط البناء، فليس النمط الإسلامي في البناء هو ما كان أقواساً وقباباً، بل هو كل نمط يراعي قيم الإسلام ومبادئه، وينبثق عن الثقافة الإسلاميّة. وما قلناه في الزي ونمط البناء نقوله في الفنون، فالفن الذي ينضبط بضوابط الشريعة الإسلاميّة ويراعي القيم الإسلاميّة يعتبر فناً إسلامياً، وكذلك الأمر في الأدب والشعر.

من يتجول في شوارع روما القديمة، مثلاً، ويتأمل تماثيل القديسين والعظماء، التي تنتشر في الشوارع والساحات، يدرك بأنّ الحضارة التي أنجبت هذه المدينّة هي حضارة ذات جذور وثنيّة تقدّس الصنم وتُعلي من قيمة الوثن. والمتأمل لهذه التماثيل يدرك أيضاً بأنّ هذه الحضارة تُقدّم القيم الجماليّة على القيم الأخلاقيّة. أما من يسير في شوارع القدس القديمة، وساحات المسجد الأقصى المبارك، فإنّه لا بد أن يلاحظ أنّ الحضارة الإسلاميّة هي حضارة مُوَحِّدة، تُعلي من شأن الفكرة وتحط من قيمة الوثن. ويَلحظ أنها تُقدّم القيم الأخلاقيّة على القيم الجماليّة، ويلحظ ذلك بشكل أوضح في عالم الأزياء وعالم الفنون والآداب.

الثقافة إذن هي التي تعطي كل حضارة طعمها الخاص وبالتالي خصوصيتها. وهي أساس الالتقاء والاختلاف بين الحضارات والأمم. وعليه فيمكننا كمسلمين أن ننهل من معين العلم من كافة مصادره وموارده، أما في عالم الثقافة فلدينا ثقافة متميزة ومتفوقة على غيرها من الثقافات المعاصرة، أساسها التوحيد. وهي تُعلي من قيمة الفكرة وتنبذ الصنميّة والوثنيّة، وتُقدّم القيم الأخلاقيّة ولا تتنكر للقيم الجماليّة، بل تسمو بها. وهي ثقافة متوازنة ومتناسقة، إنسانيّة الأهداف والوسائل، تعلي من قيمة الإنسان، عالميّة الأهداف أخلاقيّة الوسائل.

إنّ قوة الحضارة الغربيّة المعاصرة تكمن في الجانب العلمي والتكنولوجي، في حين يتجلّى ضعفها في الجانب الثقافي وفي حضارتها التي تتدلى بالإنسان. وإنّ في انهيار الماركسيّة لمثل واضح على أنّ ثقافة الإنسان وقيمه ومبادئه هي الأساس في نهضة الحضارات أو تراجعها. في المقابل نجد أنّ الضعف في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة يكمن في الجانب العلمي والتكنولوجي الذي يسهل تداركه، ويساعدنا في ذلك عناصر القوة الكامنة في ثقافتنا المتفوقة ومبادئنا السامية.

هل استطاعت الثقافة الفرنسيّة الهشة والآثمة أن تصمد أمام الطهر المتمثل في قلّة من الفتيات المسلمات المعتزات بحضارتهن الإسلاميّة الأنيقة. إنّ الفتاة المسلمة التي تجلس على مقاعد الدراسة بجانب الفتاة الفرنسيّة وتنهل من معين العلم من غير تحفُّظ، هي نفسها التي تعلن بسلوكها وزيها بأنّ الحضارة الغربيّة لا تليق بالإنسان، فهي تنحطّ به في دركات الحيوانيّة والشهوانيّة، وتجعل من العبثيّة فلسفة له ومنهجاً وسلوكاً. هذه الفتاة المعتزة بحضارتها الإسلاميّة جعلت مراكز الرصد الفرنسيّة تُستنفر وتقرع أجراس الخطر، لإدراكها بأنّ الحضارة الأقوى هي التي ستسود في النهاية. وقد قادها شعورها بالخطر وهشاشة قيمها إلى التنكّر للحرية التي هي من أهم مقدّساتها. ومن المفارقات أن نجد ذلك يحدث في البلد الذي تغنّى طويلاً بقيم الحريّة والإخاء والمساواة، بل إنّه البلد الأوروبي الأول الذي رفع شعار الحرية بعد انتصار ما يسمّى بالثورة الفرنسيّة.

إنّ الجيوش الهمجيّة التي انتصرت على المسلمين في معركة بواتيه (بلاط الشهداء)، وحالت دون وصول رحمة الإسلام إلى الشعوب الأوروبيّة، هي نفسها التي تقف اليوم لتصد الشعوب الغربيّة عن معرفة الحق والحقيقة. ولكن المعركة اليوم تختلف في وسائلها ولم تعد تدور على الحدود المصطنعة بين البشر، بل هي تدور في عقر دار الاستعمار المتغطرس، وتدور في عواصم مثل لندن وباريس وواشنطن. وفي النهاية ستكون الغلبة للحضارة الأقوى، ولا داعي للخوف، لأنّ مثل هذا الانتصار هو في مصلحة الجميع.



خصائص الحضارة الإسلاميّة:

1. التوحيد الخالص: وتنعكس هذه الخصيصة على كل جوانب الحياة حتى في الفن والعمارة. فأنت تجد أنّ فن العمارة الإسلامية والفن الإسلامي بشكل عام قد ابتعد عن كل مظاهر الوثنيّة. ويكفي أن تدخل المسجد ثم تدخل أي معبد لأي دين آخر في الأرض لتدرك تفرُّد الحضارة الإسلاميّة بالتوحيد الخالص.

2. النزعة الإنسانيّة، والأفق العالمي: جاء في الآية 13 من سورة الحجرات:"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، إنّ الله عليم خبير".

وقد نجحت الحضارة الإسلاميّة في صهر الشعوب في بوتقة واحدة، وأفلحت في إزالة حواجز الجنس واللون واللغة.

3. الأخلاقيّة في التشريع والسلوك: وتلحظ ذلك في الفكر والأدب والفن والحكم ... وكل مظاهر الحياة الإسلاميّة.

4. الاستناد والتأسيس على العلم والمنهجيّة السويّة في البحث والتفكير: ويظهر أثر ذلك في النهوض العلمي والفكري الهائل في القرون الإسلامية الأولى، والذي لم يسبق له مثيل في تاريخ البشريّة. بل إنّ الواقع العلمي المعاصر في العالم الغربي يرجع في أسسه إلى المؤثرات الإسلامية، وعلى وجه الخصوص المنهجية العلمية في البحث والتفكير.

5. التسامح الديني: لقد قامت الحضارة الإسلاميّة على أساسٍ من الدين الحق. من هنا وجدناها تعامل الجميع على أساس من العدل والمساواة والرحمة. فكانت في ذلك الاستثناء الوحيد في تاريخ الحضارات البشريّة، بما فيها الحضارة الغربيّة المعاصرة، والتي ضاقت بالإسلام عندما بدأ المسلمون يرجعون إلى دينهم. فبلد كفرنسا – كما أشرنا سابقاً - لم تطق أن تسمح لعدد قليل من الفتيات المسلمات أن يحتشمن في لباسهنّ، تحت ستار أن ذلك يهدد الحضارة الغربيّة، فاصدرت القوانين التي تحظر على الفتاة المسلمة أن تتزيّا بالأزياء التي تُشعر بالطهر والعفاف.



حضارتنا من منظور غربي:

مقتطفات من كتاب: (شمس العرب تسطع على الغرب) للمستشرقة الألمانية زيغرد هونكة،



...وعلى خلاف ذلك كانت الحال في العالم الإسلامي. لقد اهتمت الدولة بتعليم الرعيّة، ولم تلبث أن جعلت من التربية واجباً ترعاه، فالأطفال من مختلف الطبقات يتعلمون التعليم الأولي مقابل مبالغ ضئيلة يقدر على دفعها الناس دون مشقّة. ومنذ أن بدأت الدولة تعيّن المعلمين للمدارس أمكن للفقراء أن يعلّموا أولادهم مجاناً، بل إنّ بعض البلدان العربيّة، مثل أسبانيا، قد جعلت التعليم للجميع مجانياً. وقد افتتح الحَكَمُ الثاني حوالي عام 965م في قرطبة سبعاً وعشرين مدرسة لأبناء الفقراء، بالإضافة إلى المدارس الثماني التي كانت فيها فعلاً. وفي القاهرة، أنشأ المنصور قلاوون مدرسة لليتامى ملحقة بالمستشفى المنصوري...

وكان الطلبة يتناولون طعامهم مجاناً، بل ويتقاضون مرتباً صغيراً، ويسكنون في الأدوار العليا في المدرسة دون مقابل. أما في المهاجع، فثمة المطبخ والمخازن والحمامات، وفي الطبقة الأرضيّة تلتف الفصول وقاعات المكتبة على شكل دائري خلف ممرات مظللة تُزينها الأعمدة، وفي الوسط فناء فسيح تتوسطه نافورة ماء. هنا يتعلم شباب العرب الطَّموح القرآن وقواعد اللغة والديانة والخطابة والأدب والتاريخ والجغرافيا والمنطق والفلك والرياضة. ويساهم الطلاب في المناقشات والمناظرات، ويعيد معهم دروسهم مساعدون من طلبة الصفوف المتقدمة أو من الخرّيجين. وتبدو هذه المدارس كخلايا النحل الدائبة النشاط، تُخرج للجميع شهداً حلواً فيه شفاء للناس، وتقدّم قادة للعلم والسياسة.....

أما الطريق الذي يسلكه الراغب في تعلّم فرع معين من العلوم، والذي يرغب الطالب أن يقوم هو بتدريسه يوماً من الأيام، فكان يبدأ في المساجد؛ فلم تكن المساجد مجرد أماكن تؤدّى فيها الصلوات فحسب، بل كانت منبراً للعلوم والمعارف.

كان الأستاذ يجلس ويلتف حوله طلبة في حلقة أبوابها مفتوحة لمن يشاء، رجلاً كان أم امرأة، ولكلٍّ الحق في سؤال الأستاذ أو مقاطعته معارضاً. وكان هذا النظام أكبر دافع للأساتذة يدفعهم دائماً للإعداد المتقن لدروسهم والتعمق فيها... لقد كان للمعلّم الحق في أن يُلقي ما شاء من محاضرات وأن يتخذ مجلس الأستاذ، ولكنّ الجمهور المثقف الواعي، بنقده الدائم ويقظته، كان يحمي تلك المجالس من أن يتسرّب إلى قيادتها مدعي علم أو مَن لم تنضج ثقافته وتكتمل.

لقد أتيح للطلاب دائماً فرصة الاستماع إلى الأساتذة الزائرين من كل أنحاء العالم العربي المترامي الأطراف. فلقد كان المتعلمون، في طريقهم السنوي إلى مكة لأداء فريضة الحج، يغتنمون الفرصة فيزورون مراكز الثقافة الإسلاميّة الواقعة على مقربة من طريقهم، فيستمعون لكبار الأساتذة في دمشق أو في بغداد. وهناك من أئمّة العلماء من زار القيروان، أو الجامع الأزهر بالقاهرة، أو الزيتونة بتونس، ليلقي المحاضرات، سواء كان هؤلاء العلماء في طريقهم إلى الحج أو مسافرين خصيصاً لهذا الغرض، يجوبون أنحاء العالم الإسلامي من سواحل بحر قزوين إلى سواحل الأطلسي. منهم المؤرخون والجغرافيّون، ومنهم علماء الحيوان والنبات والباحثون عن تراث الأدب القديم. وهم جميعاً، في حِلِّهم وترحالهم يفيدون ويستفيدون. ومن شِفاه هؤلاء وأولئك كانت الأفكار العلميّة الحديثة تنتشر في كل صوب، فما يدور اليوم في البصرة أو بغداد، تحمله الأنباء غداً إلى القاهرة أو قرطبة، حين لم يكن هناك صحف أو بريد.

وكم كان من السهل، أثناء نقل مثل تلك الأخبار من فم لآخر، أن تُسرق النظريات والاكتشافات، ولكن الأمانة العلميّة منعت هذا. فكان مألوفاً أن نسمع من أستاذ علاّمة:" يحيى بن عيسى أخبرني أنه سمع من أبي بكر البغدادي كيف شرح سعيد بن ياقوت في إحدى محاضراته أنّ... ".

... فمن يرغب من المعلّمين أن يحاضر عن كتاب لغيره، وجب عليه أن يحصل أولاً على إجازة من مؤلف هذا الكتاب. ولم يكن لأحد أن يأخذ آراء أستاذه، التي ألقاها شفوياً في إحدى محاضراته، ليُدرِّسها لتلاميذه دون أن يستأذن أستاذه صاحب الرأي نفسه. وكان راوي الشعر، مثلاً، تلميذاً للشاعر ينقل عنه أشعاره بموافقته واختياره،... ومن يحصل على هذا الإذن يملك حق تدريس ما صُرِّح له به. وبذلك كان حفظ حق المؤلف مَرعياً مقدساً، ورِثَته الجامعات الغربيّة عن المدارس العربيّة العليا.

لقد قدّم العرب للغرب نموذجاً حياً لإعداد المتعلمين لمهن الحياة العامة وللبحث العلمي، وذلك عن طريق جامعاتهم التي بدأت تزدهر منذ القرن التاسع، والتي جذبت إليها، منذ عهد البابا سلفستروس الثاني، عدداً من الغربيين من جانبي جبال البرانس، وظل هذا العدد يتزايد حتى صار تياراً فكرياً دائماً. لقد قدّمت تلك الجامعات، بدرجاتها العلمية وتقسيمها إلى كليات واهتمامها بطرق التدريس، للغرب أروع الأمثال. ولم تُقدّم هذا المظهر فقط بل وفّرت له كذلك مادّة الدراسة.

إنّ العرب هم الذين أنقذوا الحضارة الإغريقيّة من الزوال ونظّموها ورتّبوها ثم أهدوها إلى الغرب. ولم يقتصر دورهم على ذلك بل كانوا هم الذين أسسوا الطرق التجريبيّة في الكيمياء والطبيعة والحساب والجبر والجيولوجيا وحساب المثلثات وعلم الاجتماع. وبالإضافة إلى عدد لا يحصى من الاكتشافات والاختراعات الفرديّة في مختلف فروع العلوم، والتي سُرِق أغلبها ونسب لآخرين. وقدّم العرب أثمن هديّة وهي طريقة البحث العلمي الصحيح التي مهدت أمام الغرب الطريق لمعرفة أسرار الطبيعة وبالتالي تسلطه عليها اليوم.

ولعل أبرز رجال الغرب الأوائل الذين بهرتهم حضارة العرب ولم يخجلوا من الارتباط بهم هو القيصر الصقلي فردريك الثاني، أحد القياصرة الأعلام في التاريخ.

ولقد ساهمت الرحلات التي قام بها العلماء العرب، من أمثال ابن بطوطة، في زيادة المعلومات الجغرافيّة وصحّحت آراء خاطئة وأخطاء شائعة.

لقد غادر ابن بطوطة بلدته طنجة في رحلة علميّة محفوفة بالمغامرات والتجارب عاد منها إلى موطنه بعد أربعة وعشرين عاماً.

واستطاع الجغرافيون الفلكيون من أمثال البتاني وابن يونس والبيروني وابن سعيد وياقوت أن يتقدموا خطوات عما وصل إليه الأقدمون فاستطاعوا أن يحددوا بدقة متناهية الموقع الجغرافي للبلدان الهامّة بالنسبة إلى خطوط الطول والعرض....وإذا كان بطليموس قد أخطأ في رسوماتها في بضع درجات فإنّ العرب لم يتجاوزوا الواقع الصحيح بدقيقة أو دقيقتين. ولقد وحَّد الإدريسي الاتجاهين فربط بين الجغرافية الوصفيّة والجغرافية الرياضيّة الفلكيّة.

وفي فرع آخر من الجغرافيا الطبيعيّة والجيولوجيّة أعطى ابن سينا والبيروني أمثلة صحيحة تماماً ولها قيمتها العلمية... ولقد كتب ابن سينا حوالي 1000 ميلاديّة يقول: ترجع الجبال في أصلها ونشأتها إلى عاملين، فإما أن تنشأ نتيجة انحناء في القشرة الأرضيّة بسبب حركات عنيفة في باطن الأرض، وإما أن يكون أثر الماء هو سبب نشأتها عندما يتخذ الماء لنفسه طريقاً وأودية. وطبقات الصخور وأنواعها بعضها ليّن وبعضها صلب. و تؤثر الرياح والماء في النوع الأول ... والماء هو العامل الأساسي في هذه التأثيرات ويمكن الاستدلال على ذلك من وجود بقايا متحجرة من حيوانات مائية فوق كثير من الجبال.



وتقول هونكة عند الحديث عن المكتبات:

الشغف بالكتب:

لقد أقبل العرب على اقتناء الكتب إقبالاً منقطع النظير يشبه، إلى حد كبير شغف الناس في عصرنا هذا باقتناء السيارات والثلاجات وأجهزة التلفزيون، فأصبحت الكتب هي مطلب كل من يستطيع تحمُّل نفقات الحصول عليها، وأقبل الناس في البلدان العربيّة على اقتنائها بلهفة متزايدة لم يعرف لها التاريخ من قبل مثيلاً.

وكما يقاس ثراء الناس اليوم بمدى ما يملكون من عربات فاخرة، مثلاً، قدَّر الناس - في ذلك العصر الممتد من القرن التاسع حتى القرن الثالث عشر – الثراء بمدى ما يُقتنى من كتب أو مخطوطات.

ولم يكن الخليفة، بتشجيع من وزرائه من البرامكة، ليهدي الجماهير هدية تتفق مع مزاجهم أجمل من إنشائه مكتبة ضخمة في بغداد عرفت بدار الحكمة.

ونمت دور الكتب في كل مكان نمو العشب في الأرض الطيبة. ففي عام 891م يحصي مسافر عدد دور الكتب العامة في بغداد بأكثر من مئة. وبدأت كل مدينة تبني لها داراً للكتب يستطيع عمرو أو زيد من الناس استعارة ما يشاء منها، وأن يجلس في قاعات المطالعة ليقرأ ما يريد، كما ويجتمع المترجمون والمؤلفون في قاعات خصصت لهم، يتجادلون ويتناقشون كما يحدث اليوم في أرقى الأندية العلميّة.

فمكتبة صغيرة، كمكتبة النجف في العراق، كانت تحوي في القرن العاشر أربعين ألف مجلد، بينما لم تحوِ أديرة الغرب سوى اثني عشر كتاباً ربطت بالسلاسل، خشية ضياعها. ويحتاج تصنيف الكتب الموجودة في مدينة الريّ إلى عشرة فهارس كبيرة. وكان لكل مسجد مكتبته الخاصة، بل إنّه كان لكل مستشفى يستقبل زواره قاعة فسيحة صُفّت على رفوفها الكتب الطبيّة الحديثة الصدور، تباع لتكون مادة لدراسة الطلاب ومرجعاً للأطباء... ولقد جمع ناصر الدين الطوسي لمرصده في مراغة 400.000 مخطوطة.

وحذا حذو الخليفة في بغداد كل الأمراء العرب في مختلف أنحاء العالم العربي؛ فأربت، مثلاً، مكتبة أمير عربي في الجنوب على 100.000 مجلد. وروي أنه لما شفي سلطان بخارى، محمد المنصور، من مرضه العضال على يد ابن سينا، وهو بعد فتى لم يتجاوز الثامنة عشرة، كافأه السلطان على ذلك بأن سمح له أن يختار من مكتبة قصره ما يحتاج إليه من الكتب لدراسته، وكانت كتبها تشغل جزءاً كبيراً من القصر، وقد رُتبت حسب موضوعاتها. ويكتب ابن سينا عن ذلك فيقول:" وهناك رأيتُ كتباً لم يسمع أغلب الناس حتى بأسمائها".

ولا يستطيع أحد أن يقارن نفسه بالخليفة العزيز في القاهرة، حتى خليفة قرطبة، الذي بعث رجاله وسماسرته في كل أنحاء الشرق ليجلبوا له الكتب فيزيد روائع مكتبته، أنّى له أن يصل إلى ما فعله العزيز؟! لقد حوت مكتبة العزيز 1.600.000 مجلد، فكانت بذلك أجمل وأكمل دار للكتب ضمّت 6500 مخطوطة في الرياضيات، و 18.000 مخطوطة في الفلسفة. ولم يمنع هذا قط ابنه من بعده، حين اعتلى العرش، من أن يبني مكتبة ضخمة فيها ثماني عشرة قاعة للمطالعة إلى جوار المكتبة القديمة.

وكذلك فعل الوزراء ورجال الدولة، فلقد ترك الوزير المهلبي، مثلاً، عند وفاته عام 963م مجموعة من 117.000 مجلد، واستطاع زميله ابن عبّاد أن يجمع في مكتبته 206.000 كتاب، وجمع أحد قضاته 1.050.000 مجلد. ولما كانت هذه الأرقام الضخمة قد حسبت بالتقريب وبولغ في بعضها، فإنّ هذه المبالغة نفسها لهي أكبر دليل على مفاخرتهم بذلك وسرورهم بكل جهد يبذل في هذا السبيل. وليس أدل على هذا مما نقرأه من أنّ بعض الوزراء لم يكن يخرج إلى رحلة إلا ومعه حمولة ثلاثين جملاً من الكتب تصحب ركبه.

وتقول هونكة تحت عنوان: نُصُب تذكارية للعبقرية العربية:

وصادف العرب في تجاربهم الكيميائيّة العديدة كثيراً من التركيبات التي كان لها قوة شفائيّة علاجيّة، الأمر الذي حدا بالرازي إلى دفع الكيمياء في خدمة الطب، وبهذا حقق فتحاً علمياً آخر إلى جانب فتوحاته العديدة... وقد اتضح للرازي أنّ بوسعه أن يستحضر عقاقير جديدة في عملياته الكيميائيّة، من تقطير وتصعيد لمواد طبيعيّة أصلاً، فرفع علم الكيمياء إلى مستوى علم النبات نفسه ودأب دوماً على تجربة العقاقير الجديدة على الحيوانات ليرى تاثيرها فيحصي منافعها وضررها... ودرس خصائص الزئبق ومركباته واستحضرها واستعملها كعقار ضد بعض الأمراض. واهتم بالأفيون والحشيش وجعله صالحاً للاستعمال في عملية التخدير. وثمة دواء أوجده الرازي وهو لا يزال يحمل الاسم التالي في فرنسا (Blanc- Rasis) حرّفته العامّة إلى(blanc Raisin) أي العنب الأبيض.

ويدين الطب لعلم الكيمياء العربي بسلسلة من أشكال العقاقير كالشراب الحلو (Sirup) المستخرج من نبات الكرنب مع السكر (Zucker) الذي مثّل دوراً هاماً في تاريخ الطب، والجلاب (julep) وهو شراب حلو المذاق منعش، أقل كثافة من الشراب (Sirup) والفاكهة المطبوخة بالعسل أو السكر.

وقد فكّر الرازي أيضاً بالمرضى الذين يشكون حساسية مرهفة شديدة ويعجزون عن تناول الأدوية، فكان أن غلّف حبات الـ Roob المُرة بغلاف من السكر ومزج عصير الفاكهة بالسكر أو العسل أو غير ذلك، حتى تذهب مرارتها وتزداد كثافتها، فتصب على بلاطة من المرمر وبعد تجمدها كانت تقطع إلى أجزاء صغيرة. واما العادة المتبعة اليوم في تغليف حبات الأدوية بالذهب أو الفضة فهو تقليد يرجع فضله إلى ابن سينا الذي وصف الذهب والفضة كأدوية مفيدة للقلب ولجأ إلى تغليف الحبوب بهما.

وبرع العرب كل البراعة بما قدّموه من أنواع الضمادات والمساحيق والمراهم واللزوق وغيرها، .. اهتمامهم بمعالجة الخراجات والدمامل وتطبيخها ثم شقها، ومداواة كثير من الأمراض الجلديّة والجروح، وسعوا إلى تخفيف آلام هذه الأخيرة واجتناب تقيّحها مستعملين في ذلك...والمواد المضادة للميكروبات (Antibiotica). واستعملوا كذلك القهوة المحروقة لمعالجة التهابات عديدة، وقد أخذ عنهم عالم كيميائي ألماني، قبل ثلاثين سنة، استعمال هذه (القهوة المفحمة) التي سماها بنفسه (منقذة الحياة) وحملها معه إلى ألمانيا حيث استعملت للالتهابات المزمنة وقدمت نتائج باهرة مذهلة. وقد وفّق العرب أيضاً إلى صنع مراهم دبقة تجف مع الوقت (كشماعات) الجروح الحديثة.ا.هـ



الحضارة الإسلاميّة من منظور إسلامي:

مقتطفات من كتاب: (من روائع حضارتنا) للدكتور مصطفى السباعي

1. المؤسسات الخيريّة:

ومن المؤسسات الخيريّة الخانات والفنادق للمسافرين المنقطعين وغيرهم من ذوي الفقر. ومنها التكايا والزوايا التي ينقطع فيها من شاء لعبادة الله عز وجل، ومنها بناء بيوت خاصة للفقراء يسكنها من لا يجد ما يشتري به أو يستأجر داراً، ومنها السقايا أي تسبيل الماء في الطرقات العامة للناس جميعاً، ومنها المطاعم الشعبيّة التي كان يفرّق فيها الطعام، من خبز ولحم وحساء وحلوى. ولا يزال عهدنا قريباً بهذا النوع في كل من تكيّة السلطان سليم وتكيّة الشيخ محيي الدين بدمشق، ومنها بيوت للحجاج في مكة ينزلونها حين يفدون إلى بيت الله الحرام، وقد كثرت هذه البيوت حتى عمّت أرض مكة كلها، وأفتى بعض الفقهاء ببطلان إجارة بيوت مكة في أيام الحج لأنّها كلها موقوفة على الحجاج. ومنها حفر الآبار في الفلوات لسقي الماشية والزروع والمسافرين، فقد كانت كثيرة جداً بين بغداد ومكة، وبين دمشق والمدينة، وبين عواصم البلاد الإسلاميّة ومدنها وقراها، حتى قلّ أن يتعرض المسافرون – في تلك الأيام – لخطر العطش. ومنها أمكنة المرابطة على الثغور لمواجهة خطر الغزو الأجنبي على البلاد، فقد كانت هنالك مؤسسات خاصة بالمرابطين في سبيل الله، يجد فيها المجاهدون كل ما يحتاجون إليه من سلاح وذخيرة وطعام وشراب، وكان لها أثر كبير في صد غزوات الروم أيام العباسيين، وصد غزوات الغربيين في الحروب الصليبية عن بلاد الشام ومصر. ويتبع ذلك وقف الخيول والسيوف والنبال وأدوات الجهاد على المقاتلين في سبيل الله عزوجل، وقد كان لذلك أثر كبير في رواج الصناعة الحربيّة وقيام مصانع كبيرة لها، حتى كان الغربيون في الحروب الصليبية، يفدون إلى بلادنا – أيام الهدنة – ليشتروا منا السلاح، وكان العلماء يفتون بتحريم بيعه للأعداء. فانظر كيف انقلب الأمر الآن فأصبحنا عالة على الغربيين في السلاح لا يسمحون لنا به إلا بشروط تقضي على كرامتنا واستقلالنا

ويتبع ذلك أوقاف خاصة يُعطى ريعها لمن يريد الجهاد، وللجيش المحارب حين تعجز الدولة عن الإنفاق على كل أفراده. وبذلك كان سبيل الجهاد ميسراً لكل مناضل يودُّ أن يبيع حياته في سبيل الله ليشتري بها جنة عرضها السموات والأرض ...

ومن المؤسسات الاجتماعيّة ما كانت وقفاً لإصلاح الطرقات والقناطر والجسور، ومنها ما كانت للمقابر حيث يتبرع المسلم بالأرض الواسعة لتكون مقبرة عامة. ومنها ما كان لشراء أكفان الموتى الفقراء وتجهيزهم ودفنهم.

أما المؤسسات الخيريّة لإقامة التكافل الاجتماعي، فقد كانت عجباً من العجب، فهناك مؤسسات للقطاء واليتامى لرعايتهم، ومؤسسات للمقعدين وللعميان والعجزة، يعيشون فيها موفوري الكرامة، لهم كل ما يحتاجون من سكن وغذاء ولباس وتعليم أيضاً.

وهنالك مؤسسات لتحسين أحوال المساجين ورفع مستواهم وتغذيتهم بالغذاء الواجب لصيانة صحتهم، ومؤسسات لإمداد العميان والمقعدين بمن يقودهم ويخدمهم. ومؤسسات لتزويج الشباب والفتيات العزّاب ممن تضيق أيديهم أو أيدي أوليائهم عن نفقات الزواج وتقديم المهور ... فما أروع هذه العاطفة وما أحوجنا إليها اليوم!

ومنها مؤسسات لإمداد الأمهات بالحليب والسكر... وقد كان من مَبرّات صلاح الدين أنّه جعل في أحد أبواب القلعة – الباقية حتى الآن في دمشق – ميزاباً يسيل منه الحليب، وميزاباً آخر يسيل منه الماء المذاب فيه السكر، تأتي إليه الأمهات يومين في كل أسبوع ليأخذن لأطفالهن وأولادهن ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر ...

ومن أطرف المؤسسات الخيريّة وقف الزبادي للأولاد الذين يكسرون الزبادي وهم في طريقهم إلى البيت، فيأتون إلى هذه المؤسسة ليأخذوا زبادي جديدة بدلاً من المكسورة، ثم يرجعوا إلى أهليهم وكأنّهم لم يصنعوا شيئاً.

وآخر ما نذكره من هذه المؤسسات، المؤسسات التي أقيمت لعلاج الحيوانات المريضة، أو لإطعامها، أو لرعيها حين عجزها، كما هو شأن المرج

نحنُ والحضارة الغربيّة









بعد هزيمة الصليبيين في حطّين وما تلاها رجع الأوروبيّون إلى أوطانهم وقد أكسبهم الاحتكاك بالمسلمين الشيء الكثير على المستوى المعرفي والقيمي، وكان تأثّرهم الأكبر بمسلمي الأندلس، حيث تتلمذ الغربيون في مدارسها وجامعاتها. وفي الوقت الذي بدأ فيه الغربيون ينهضون نتيجة تأثرهم بالمسلمين كان المسلمون قد بدأوا يتراجعون شيئاً فشيئا،ً وبلغ التدهور مداه بدخول المسلمين ما سمي بمرحلة الانحطاط، أي مرحلة التخلف والأميّة.

وشاء الله تعالى أن يكون اللقاء بالغربيين مرة أخرى وقد انقلبت الموازين، فالغربي متنور ومنظم وقوي وغني، والمسلم أمي ضعيف فقير ومتخلف. وشكّل هذا اللقاء صدمة للمجتمعات العربيّة والإسلاميّة، فلم يكن المسلم يشعر بتخلفه حتى أبصر الغربي المتسلح بالعلم والتكنولوجيا، ولم يكن يشعر بضعفه حتى وقع فريسة للاستعمار الغربي. وكان هذا الواقع الجديد هو التحدي الكبير الذي لم يواجه العالم الإسلامي مثيلاً له عبر تاريخه العريق.



ردود أفعال:

اختلفت ردود أفعال الناس في العالم الإسلامي على هذا التحدي الخطير، واختلف موقفهم من الحضارة الغربيّة، ويمكن حصر هذه المواقف في ثلاثة:



الموقف الأول: موقف المنبهرين بالحضارة الغربيّة، الذين حملوا لواء الدعوة إلى تقليد الغربيين وأخذ حضارتهم بحلوها ومرها خيرها وشرها. وكان لأمثال هؤلاء تأثير كبير في عالم الفكر والإعلام والاقتصاد والسياسة.. ولا يزال العالم الإسلامي يعاني من هؤلاء، حيث عملوا على إلحاق المسلمين بالغرب، وخرجوا على قيم الأمة ومبادئها، بل وحاربوا كل من يعمل من أجل عودة الأمّة إلى ذاتها الحضاريّة.

نعم، لقد نجح هؤلاء لفترة من الزمن، وساعد في نجاحهم حقيقة أنّ الضعيف يتأثر بالقوي، والفقير يتأثر بالغني، والجاهل يتأثر بالعالم. وكانت لهؤلاء صولات وجولات، ولا يزالون يؤثرون في حياتنا الفكريّة والاقتصاديّة والسياسيّة.



الموقف الثاني: وهو نقيض الموقف الأول، فهؤلاء رفضوا الحضارة الغربية بخيرها وشرها حلوها ومرها، وتقوقعوا على أنفسهم، وكانوا دعاة للتمسك بكل قديم، ورفض كل جديد يأتي من جهة الغربيين. وساد مثل هذا الموقف في بلد كأفغانستان واليمن.. وكان من نتيجته أن بقي أصحابه في تخلفهم وأميتهم، وتجاوَزَهم قطار التقدّم. في المقابل استطاع هؤلاء بتقوقعهم أن يحفظوا أنفسهم من مفاسد الغرب وضلالاته، فلم يأخذوا من خيره ولم يتأثروا بشره.



الموقف الثالث: وهو الموقف الداعي إلى الاستفادة من إيجابيات الحضارة الغربيّة وتوقي سلبياتها. وقد حضّ أصحاب هذا الموقف على مقاومة التبعيّة للغربي، كما ودعوا إلى عدم التقوقع وإلى ضرورة الانفتاح على كل ما هو إيجابي. وقد تميّز هؤلاء بقدرتهم على نقد الحضارة الغربيّة وإبراز مفاسدها، وخاضوا معاركهم الإعلاميّة والفكريّة والسياسيّة... مع أصحاب الموقف الداعي إلى تغريب الأمة الإسلاميّة وإلحاقها بالحضارة الغربيّة. ولم تكن هذه معركتهم الوحيدة، فقد خاضوا معارك فكريّة مع دعاة التقوقع أيضاً.

نتائج:

نتج عن هذه المواقف المتعارضة أمور منها:

1. ساعد موقف المتقوقعين على الحفاظ على تراث الأمة وذاتها الحضاريّة في الفترة التي كانت فيها الأمّة متخلفة وغير قادرة على المواجهة الفكريّة.

2. استفز موقف دعاة التغرب علماء الأمّة ومفكريها، فنهضوا ليذودوا عن فكر الأمة وقيمها، فأكسبهم هذا الصراع الوعي الكافي لنقد الحضارة الغربيّة ولتقديم الإسلام في صيغة وثوب معاصرين.

3. ساعد الصراع الذي قام بين المواقف الثلاثة على إبصار السلبيّات والإيجابيات في تراث الأمة الإسلاميّة، وساهم في تصحيح وتصويب الأخطاء. كما ساعد في إبصار سلبيات الحضارة الغربيّة وإيجابياتها.

4. إذا كان موقف المتقوقعين يحافظ على الذات من غير قدرة على التأثير، مع احتمال الانسحاق تحت عجلة التقدم، فإنّ موقف دعاة التغريب وجد له تربة خصبة في ظل الأميّة والتخلف والفقر والفوضى، إلا أنّه موقف غير قابل للاستمرار، لتناقضه مع فكر الأمة وأصالتها. ولا شك أنّ قوة تأثير الحضارة الإسلاميّة يجعل من هزيمة الفكر التغريبي مسألة وقت، ويجعل من نجاح الموقف الثالث (الموقف النقدي) قضية حتميّة بإذن الله تعالى. والمراقب لمسيرة المجتمعات الإسلاميّة اليوم يدرك أنّ الفكر التغريبي يعاني من هزيمة منكرة جعلت الغرب يخرج عن طوره فيحاول استخدام القوة العسكريّة والاقتصاديّة لفرض مبادئه وقيمه، معلناً بذلك عن هزيمته وإفلاسه، ومبشراً بانتصار الفكر النقدي الوسطي الذي رفض التقوقع ورفض التابعيّة والانسياق، واعتز بذاته الحضاريّة، ولم يمنعه اعتزازه هذا من أن يمارس النقد الذاتي المؤدي إلى التصحيح والتصويب. ولم تمنعه أصالته من الانفتاح على الآخر، لأنّه يملك المقياس، ويملك الضوابط التي تحفظه من التأثر.





القسم الثانوي الثالث :مدخل للفكر الإسلامي

مدخل للفكر الإسلامي



يمكن أن نعرّف الفكر بأنّه: إمعان النظر والتأمل في الأشياء الحسيّة والمعنويّة من أجل الوصول إلى حقيقتها.

الحسيّة: مثل أن نمعن النظر لمعرفة أسباب صدأ عنصر الحديد.

المعنويّة: مثل أن نمعن النظر لمعرفة أسباب سقوط الدول والإمبراطوريات. ويغلب أن يُطلق على عمليّة إمعان النظر اسم (التّفكر)، وعلى نتاج هذه العملية اسم (الفكر).



لماذا هو إسلامي؟

لأنّه ناتج عن إمعان النظر في مصادر الإسلام من قِبل المسلمين عبر العصور المختلفة. فهو الفكر الذي أتى نتيجة تفاعل المسلمين عبر العصور مع الإسلام؛ كالفقه، وعلم أصول الفقه، وعلم أصول الحديث، وعلم أصول الدين (العقيدة) ، وعلم الأخلاق، وعلم التربية، وعلم التفسير ... الخ.



خلاصة:

يكون الفكر إسلامياً في الحالات الآتية:

1. عندما يكون المفكّر مؤمناً بالإسلام ومقتنعاً بمبادئه.

2. عندما يُعمِل المسلمُ فكره في المصادر الإسلاميّة، ويكون نتاجه الفكري مؤسسا على هذه المصادر، والتي هي الأصول.

3. عندما يُعمِل المسلم فكره في المصادر غيرالإسلاميّة، ولكنه يستند في تقييمه وأحكامه ومواقفه إلى أساسيات الإسلام عقيدة وشريعة.

وعليه لا يكون فهم المستشرقين الدارسين للإسلام، ولا استنباطاتهم، ولا أحكامهم، فكراً إسلامياً. وكذلك لا يعتبر فكر المسلمين المتاثرين بأصول الفلسفات غير الإسلاميّة فكراً إسلامياً.



قضايا للنقاش:

 هل الفكر الإسلامي معصوم من الخطأ؟

 هل يمكن مراجعة هذا الفكر وانتقاده؟

 إذا جازت المراجعة فعلى أي أساس ينبغي أن تتم؟



من أسس الفكر الإسلامي:

الأساس الأول: التوحيد.

‌أ. توحيد الربوبيّة: فهو وحده، سبحانه، الخالق الرازق الواهب... والمربّي لعباده.

‌ب. توحيد الألوهية: لأنّه وحده الرب الحقيقي فينبغي أن يكون وحده المعبود (المألوه).

‌ج. توحيد الأسماء والصفات:

فالله هو وحده المتصف بصفات الكمال. والمسلم يُثبت لله هذه الصفات وينزهه عن كل نقص، ويؤمن بأسماء الله وصفاته التي ثبتت بالقرآن والسنّة، من غير تعطيل ولا تكييف ولا تشبيه. ولا نَصفُ الله تعالى إلا بما وصف به نفسه.

التعطيل: نفي الصفات، كما يفعل المعتزلة؛ فهم ينفون أن تكون لله صفة سمع أو صفة إبصار غير الذات. ويقولون: إنّ الله تعالى بصير بذاته وسميع بذاته. ومن هنا نشأت مسألة خلق القرآن عند المعتزلة؛ فقد زعموا أنّ الله تعالى لا يتكلم

وإنما يخلق الكلام، فالكلام الذي سمعه موسى، عليه السلام، مثلاً، لم يتكلم به الله تعالى، وإنما خلقه الله تعالى في الشجرة.

التكييف والتشبيه: إثبات كيفيّة للصفة، وتشبيهها بصفات المخلوقين.

جاء في الآية 11 من سورة الشورى: "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"؛ فالخالق سبحانه منزه عن المثيل، وهو متصف بصفات الكمال.



بعض مآخذ القرآن الكريم على أهل الكتاب في مسألة التوحيد:

جاء في الآية 17 من سورة المائدة:" لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم ...". وجاء في الآية 72 من سورة المائدة:" لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم، وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربّي وربكم، إنّه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنّة، ومأواه النار وما للظالمين من أنصار". وجاء في الآية 73 من سورة المائدة:" لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة، وما من إله إلا إله واحد ...". وجاء في الآية 30 من سورة التوبة:" وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، ذلك قولهم بأفواههم، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ...". وجاء في الآية 31 من سورة التوبة:" اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيحَ ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً، لا إله إلا هو، سبحانه عمّا يشركون".



الأساس الثاني: ربّانية المصدر والقيم:

عندما يكون المصدر هو الرّب فإن ذلك يعني:

. انسجام هذا الفكر مع الفطرة؛ لأنّ الذي خلق هو الذي أنزل. وأي خروج على مبادئ الدين يعني التناقض مع الخلق، مما يؤدي إلى حدوث الخلل، كما هو الأمر، مع الفارق في التمثيل، عندما نخالف أوامر الصانع الذي أرسل إلينا بما يُسمى بـ(الكاتالوج)، فكيف عندما يكون الصانع هو الخالق، الكامل في قدرته وعلمه وحكمته؟!

2. استناد هذا الفكر إلى الحقيقة المطلقة، مما يجعله الأقرب إلى الصواب، والأبعد عن الخطأ والزلل.

3. قوة فعل هذا الفكر في المجتمعات، لاستناده إلى الإيمان، حيث لا سلطة على الضمير إلا للدين. وواقع الناس يثبت أنّ الإيمان بالله هو من أقوى دوافع الالتزام على مستوى مجموع البشر.



الأساس الثالث: وحدة الدنيا والآخرة.

فصلاح دنيا المرء يؤدّي إلى صلاح آخرته، وصلاح آخرته مشروط بصلاح دنياه. وهذا يعني أنّ الإيمان بالآخرة يؤدّي إلى صلاح الدنيا. وفي الوقت الذي يكفر فيه الإنسان بالآخرة فإنّه يفقد مسوّغ وجوده في الدنيا، ولا يجد نفسه بعد ذلك ملزماً بالقوانين والقيم والأخلاق، فتصبح المصلحة الفرديّة هي المحرّك والمسوّغ والقيمة والمبدأ. وواقع المجتمعات الماديّة يثبت ذلك؛ فأنت ترى أنّ الفلسفة النفعيّة هي الفلسفة التي يقوم على أساسها واقع هذه المجتمعات.



مثال توضيحي:

عندما ينقطع التيار الكهربائي عن التلفاز فإنّ كل قطعة في هذا التلفاز تفقد معناها ووظيفتها، وكذلك الأمر في حياة البشر عندما تنقطع الصلة بالدين، وعلى وجه الخصوص بالآخرة، فكل شيء يفقد عندها معناه، حتى الحياة، وتصبح القيم والمبادئ في مهب الريح، لأنها تفقد سلطتها على الضمير، الذي يشكّل مرجعيّة عليا لها. واليوم تقف الفلسفات الماديّة عاجزة عن إقناعنا بمسوّغ وهدفيّة الحياة بكل ما فيها.



قضية للنقاش:

إنسان مادي، لا يؤمن بالآخرة، ويريد أن ينتحر، كيف يمكن أن تقنعه بعدم الانتحار من غير أن تستخدم الدين وسيلة للإقناع؟!



من خصائص ومزايا الإسلام:

أولاً: الشمول والكمال

فهو شامل لجميع نواحي الحياة. ومن هنا يلاحظ المسلم أنّ في الإسلام إجابة عن كل سؤال، أي أنّ هناك حكماً شرعياً لكل حركة وسكنة.

مثال:

إذا أراد المسلم أن يتزوج يجد أنّ هناك أحكاماً للخطبة، ثم أحكاماً للزواج. وإذا حملت زوجته يجد أنّ هناك أحكاماً للجنين، ثمّ أحكاماً للمولود، ثم هناك أحكام للحضانة والرضاع، وهناك تفصيل لأحكام تربية الأولاد، وتفصيل لأحكام النفقات، وأحكام الأسرة. وفي حالة اختلاف الزوجين هناك أحكام للقضاء، فإذا رغبا في الانفصال فهناك أحكام للطلاق، فإذا مات أحدهما فهناك أحكام للجنائز، ثم هناك تفصيل للميراث ... وهكذا إلى درجة أنك لا تصل إلى طريق مسدود. فهذا هو الشمول والكمال.



ثانياً: الواقعيّة

يُقسم الدين إلى عقيدة وشريعة؛ أما العقيدة فهي الجانب النظري الإخباري من الدين. وأمّا الشريعة فهي الجانب العملي منه. وعليه فواقعيّة العقيدة تعني مطابقة الفكرة للواقع، أي صدقيّتها. ومن معاني واقعيّة العقيدة الإسلاميّة أنّها تراعي فطرة الإنسان وقدراته العقلية فلم تكلفه بما لا يطيق عقله. من هنا نجد أنّ أساسيات العقيدة الإسلامية تُدرك ببساطة من قِبل الصغير والكبير، والعالم وغير العالم، ولا يضطر المسلم إلى أن يسلك متاهات الفلسفة ليقيم الدليل على صدق عقيدته؛ فالله واحد سميع عليم بصير...الخ.

أما واقعيّة الشريعة، فمن معانيها أنها تنطلق في معالجاتها من فطرة الإنسان، على نقيض المدارس المثاليّة التي تكلف الإنسان ما لا يطيق، وعلى نقيض المدارس الماديّة العبثيّة التي لا تراعي خَلق الإنسان وخصائصه وفطرته.

فعنما قسّم الإسلام الميراث، مثلاً، راعى الفطرة وواقع الإنسان، على نقيض ما نجده اليوم في المجتمعات العلمانية. وعندما شرّع الطلاق راعى الفطرة وواقع الإنسان أيضاً، على نقيض الشرائع التي حظرت الطلاق بحجة المحافظة على الأسرة.

ومما يجدر التنبيه إليه أنّ الإسلام جاء ليغيّر من الواقع السلبي. من هنا نجد أنّ الإسلام يرفض إقرار الواقع المنحرف عن الفطرة، ويعمل على الارتقاء بالناس إلى واقع ينسجم مع أصل الفطرة. أما الفلسفات المعاصرة فاللافت أنها تُشرّع للواقع بغض النظر عن ارتقائه أو انحطاطه. وعليه، فالواقعيّة التي تعني إقرار الواقع بسلبياته وإيجابياته هي واقعيّة مرفوضة إسلامياً.

قضايا للنقاش:

واقعيّة العقيدة الإسلاميّة في مسألة توحيد الخالق.

واقعيّة الشريعة الإسلاميّة في مسألة إباحة تعدد الزوجات.



ثالثاً: الوسطيّة والتوازن

الوسطية تعني الخيريّة، فلا إفراط ولا تفريط؛ فالشجاعة وسط بين التهوّر والجبن. والكرم وسط بين البخل والتبذير. وقد جاء في القرآن الكريم في الآية 29 من سورة الإسراء:" ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط"؛ فهذه وسطيّة فيها توازن.

وورد في صحيح البخاري:" جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي، عليه السلام، فلما أخبروا كأنّهم تقالّوها فقالوا: أين نحن من النبي، صلى الله عليه وسلم، قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال:" أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" . وهذه أيضاً وسطية فيها توازن، ثم هي واقعية تراعي حاجات الإنسان الفطرية.

وقد وازن الإسلام في تشريعاته بين ثنائيّات منها: العقل والقلب، والمادة والروح، والدنيا والآخرة، ومصالح الفرد ومصالح المجموع، كل ذلك في وسطيّة متوازنة. وإليك هذه المقارنة بين وسطيّة الإسلام وتوازنه من جهة، وتطرف الفكر البشري وعدم توازنه من جهة أخرى:

1) الفلسفة: تركيز على العقل وإهمال للقلب.

مدارس التصوف المختلفة: تركيز على القلب وإهمال للعقل.

الإسلام: العقل والقلب معاً.



2) المدارس المادّية: تركيز على الحياة الدنيا.

النصرانية ومثيلاتها: تركيز على الآخرة.

الإسلام: وحدة الدنيا والآخرة.



3) المدارس المادّية: تركيز على المادّة.

المدارس الروحية: تركيز على الروح.

الإسلام: توازن بين الروح والمادة.



4) الرأسمالية: تركيز على الفرديّة.

الاشتراكيات: تركيز على الجماعيّة.

الإسلام: موازنة بين مصالح الفرد ومصالح

المجموع.



معنى آخر للتوازن:

لدينا لوح من الخشب تمّ وضعه على قاعدة مُدببة، ومن أجل توازنه جعلنا نقطة الارتكاز في مركز لوح الخشب. فإذا قمنا بالضغط على نقطة الارتكاز يبقى التوازن قائماً، وكلما ابتعدنا عن المركز نحتاج إلى التخفيف من الضغط حتى يبقى التوازن قائماً. ولا شك أنّ أبعد نقطة عن المركز قد لا تحتمل أي نوع من الضغوط وإلا اختل التوازن.

وفي عالم الفكرة: إذا قمنا بإعطاء القضايا المركزيّة والأساسيّة اهتماماً أكبر، وقمنا في المقابل بإعطاء القضايا الهامشيّة اهتماماً أقل، بحيث يتناسب ذلك مع بعدها عن المركز، نكون بذلك قد أحدثنا توازناً في التعامل مع الأمور

المختلفة. أمّا إذا عاملنا الأمر الهامشي كما نعامل المركزي فإنّ التوازن عندها يختل لصالح الأمور الهامشيّة.



رابعاً: الثبات والمرونة

العقيدة ثابتة، لأنّها أخبار، والخبر الصادق ثابت. ومن علامات الكذب عدم ثبات الخبر في المسألة الواحدة. أما الشريعة فهي ثابتة في الأسس، وهي أيضاً مرنة لكونها تفتح باب الاجتهاد. ومن اللافت أنّ النصوص الشرعيّة منها ما هو قطعي في دلالته فلا يحتمل أكثر من معنى، وبالتالي لا يحتمل الاجتهاد، ويغلب أن يكون ذلك في النصوص التي تُشرّع أساسيات العقيدة والشريعة. في المقابل هناك نصوص تحمل دلالات مختلفة، وبالتالي فهي قابلة للاجتهاد والاستنباط والتفريع.

ولا تقتصر المرونة على قابلية الاجتهاد، بل نجد أنّ تقسيم الأحكام الشرعيّة إلى فرض، وواجب، ومندوب، وحرام، ومكروه، ومباح، فيه مرونة ورحمة بالإنسان. وكذلك الأمر في تشريع الرخص التي تستجلبها الظروف والأحوال؛ فتشريع الصيام في رمضان، مثلاً، لا يعني أنه يجب الصيام في كل الظروف والأحوال. وفرض الحج على كل مسلم مرهون بالاستطاعة ... الخ.



قضية للنقاش:

في نظام الحكم الإسلامي هناك بعض الثوابت، وهناك بعض المتغيرات.





خامساً: العموم والعالميّة

فالإسلام نزل لكل فئات الناس، بغض النظر عن طبقاتهم، وهو أيضاً للبشرية جمعاء إلى يوم القيامة؛ جاء في الآية 28 من سورة سبأ:" وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ..."، وجاء في الآية 158 من سورة الأعراف:" قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ...".

أما قبل نزول الإسلام فقد كانت الرسالات خاصّة، وذلك نظراً لحاجة المجتمعات إلى ذلك في طفولتها وصباها. وعندما قاربت الأمم أن تبلغ رشدها جاءت الرسالة العامّة. وبمضي الوقت أدّت الخصوصيّة في الرسالات، بالإضافة إلى غفلة الناس عن الدين الحق، إلى ظهور فكرة شعب الله المختار، والتي عادت فانقرضت إلا ما بقي عند اليهود من مخلّفات هذه العقيدة.

وقد تميّز الإسلام عن باقي الأديان بأنّ خطابه موجّه إلى كل فئات الناس وطبقاتهم. أمّا باقي الملل فنجدها تجعل الناس طبقات، وتؤمن بالكهنوت ورجال الدين، ويختلف خطابها الديني من طبقة إلى أخرى؛ فرجل الدين يُطلب منه الكثير من الالتزامات التي لا تطلب من غيره، وهذا يجعله متميزاً أيضاً على غيره من فئات الناس. ومثل هذا الأمر يعزز وجود الطبقات التي يتسلط بعضها على بعض.





سادساً: الإيجابية

أي أنّ الآثار المترتبة على الإيمان بالفكرة الإسلاميّة، والمترتبة على ممارستها، هي آثار طيبة ونافعة ومجدية. ويمكن من خلال إبراز هذه الخصيصة أن تتحصل لدى الكثيرين القناعة بالفكرة الإسلاميّة، لأنّ الغالبية من الناس تُحاكم الأفكار على ضوء نتائجها وآثارها المحسوسة. واليوم نجد أنّه يسهل على الناس أن يحكموا على الفلسفة الغربيّة من خلال الواقع الاجتماعي وما ينبثق

عنه. مع ملاحظة أننا لا نتكلم عن العلم وما نتج عنه من تكنولوجيا، لأنّ العلم وما نتج عنه هو أمر عام لا يخص أمة أو حضارة بعينها.

قضية للنقاش:

 كيف نُعلل وفرة الإنتاج وسوء التوزيع في المجتمعات الرأسماليّة الغربيّة؟

 كيف نُعلل ظاهرة الأسر التي لا تجد لها بيوتاً وتعيش في قارعة الطريق في الكثير من الدول الرأسماليّة على الرغم من تقدمها وغناها.



النقلة النوعية التي أحدثها الإسلام:

جاء في سيرة ابن هشام، وذلك عند الحديث عن هجرة المسلمين إلى الحبشة، عندما استدعى النجاشي المسلمين ليسمع منهم، فكان جعفر بن أبي طالب، رضي الله عنه، هو المتحدث باسمهم. وكان مما قال:" أيها الملك، كنّا قوماً أهل جاهليّة؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيءُ الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف؛ فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا، نعرفُ نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان. وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء. ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات. وأمرنا أن نعبد الله وحده، ولا نشرك به شيئاً ...".

بعض ما يستفاد من هذا النص:

1. لم يقم جعفر، رضي الله عنه، بتعريف الإسلام وتعديد أركانه، وإنّما أسهب في الحديث عن النقلة النوعية التي أحدثها الإسلام. وهذه أقصر الطرق إلى عقول الناس وقلوبهم.

2. إنّ ما حصل من تغيير في واقع العرب والبشريّة بعد نزول الإسلام هو في الحقيقة خرق للعادة لم تشهد البشريّة له مثيلاً من قبل ولا من بعد. بل يمكن اعتباره من وجوه إعجاز الرسالة الإسلاميّة.

3. إنّ عظمة الفكرة لا تكمن في صحتها واستنادها إلى المنطق السليم فقط، وإنما في فاعليتها وآثارها، وقدرتها على نقل الناس من واقع سلبي إلى واقع إيجابي.





بعض مجالات هذه النقلة:

1. النقلة المعرفيّة: من أجل إحداث تغيير جوهري لا بُدّ من الارتقاء المعرفي، ولا بد من تصحيح الأخطاء العلميّة. عندها سينعكس ذلك في واقع الناس في كافة المجالات وعلى رأسها الجانب العقَدي؛ فعندما تحدّث القرآن الكريم عن بعض مظاهر الكون، وأعطى فكرة صحيحة عن حقيقة الشمس والقمر والأفلاك، ساعد ذلك في تغيير اعتقادات الناس المتعلقة بهذه الأجرام.

2. النقلة العقديّة: نزل الإسلام على مدى 23 سنة، منها 13 سنة في مكة. ويُلحظ أنّ القرآن المكي يركّز بالدرجة الأولى على الجانب العقدي، والذي لا ينفصل عن المعرفي، واستمر هذا الاهتمام في المرحلة المدنيّة أيضاً، مما يشير إلى ضرورة التغيير في الأسس العقدية حتى نتمكن من إحداث نقلة نوعيّة وجوهريّة، لأنّ الجانب العقدي يُشكل الأساس الذي يقوم عليه البناء الفكري لأي أمة من الأمم، وهو أيضاً المؤثر الأساس في الجانب السلوكي. أي أنّ الجانب العقدي ينعكس على كل جوانب الحياة.

3. النقلة الأخلاقيّة: وهي تستند بالدرجة الأولى إلى التصورات العقديّة. ولا تكفي القناعات لتحقيق نقلة أخلاقية، بل لا بد من سلطة إلزام تتسلّط على الضمير فتوجّه السلوك، وهذا لا ينجح إلا إذا قام على أساسٍ ديني، فيه بُعد أخروي.

4. النقلة التشريعيّة: وهي تستند أيضاً إلى الجانب العقدي. وقد كانت النقلة في هذا المجال كبيرة إلى درجة أنّ الكتّاب المعاصرين، وعلى وجه الخصوص العلماء بالقوانين والتشريعات، يعتبرون التشريع الإسلامي من أهم وجوه الإعجاز في الرسالة الإسلاميّة.

5. النقلة في منهجيّة التفكير: إنّ النقلة الهائلة التي حدثت في الجانب العلمي والمعرفي لا ترجع في جوهرها إلى كم المعلومات والمعارف التي جاء بها القرآن الكريم بقدر ما ترجع إلى تأثيره في منهجيّة التفكير. ومن أراد أن يراجع التاريخ، ليبحث عن أساس الانفجار المعرفي والعلمي في العصور الأخيرة، فسيجد أنّ ذلك يرجع في الأساس إلى لحظات نزول " إقرأ باسم ربك الذي خلق ... ". وليس هناك من مسار تاريخي آخر يمكن السير فيه لاستكشاف مصدر النبع الأول لنهر العلوم والمعارف المعاصرة.



ولمزيدٍ من التوضيح إليك هذا المقتبس من كتابنا: (نظرات في كتاب الله الحكيم) تحت عنوان القرآن ومنهجيّة التفكير:



" القرآن الكريم يزيد قليلاً عن 77 ألف كلمة، وهذا يعني أنّه يعادل كتاباً من 300 صفحة تقريباً. ومثل هذا الحجم لا يتضمن، في العادة، الكثير من المعلومات والمعارف والخبرات. وعلى الرغم من ذلك، فقد أحدث القرآن الكريم تغييراً هائلاً وجذرياً في مسيرة البشريّة الفكريّة والسلوكيّة، مما يجعلنا نتساءل عن سر الانطلاقة الفكرية التي حدثت بعد نزوله. وظاهر الأمر أنّ السر لا يكمن في الكم الهائل من المعلومات، لأنّ مقدار 300 صفحة لا يكفي في العادة لإعطاء إلا القليل من المعلومات. والذي نراه أنّ السّر يكمن في المنهجيّة التي يكتسبها كل من يتدبر القرآن الكريم.

عند تَصفُّح أي كتاب نجده في الغالب يتسلسل في الفكرة والمعلومة من البداية حتى النهاية. ويرجع هذا الأمر إلى رغبة الكاتب في إعطاء القارئ المعلومات والخبرات. ولكن من يتصفّح القرآن الكريم يلاحظ أنّ اكتشاف التسلسل يحتاج إلى تفكّر وتدبّر. من هنا نجد أنّ غير العرب يشعرون عند قراءة ترجمة القرآن الكريم بأنه غير مترابط في كثير من المواقع. ويرجع هذا إلى أنّ القرآن الكريم يخالف في صياغته مألوف البشر، ثمّ إنّ كلماته المعدودة تحمل المعاني غير المتناهية. ولا ننسى أنّ إعجاز القرآن الكريم يرجع بالدرجة الأولى إلى لغته، وبيانه وإيجازه…وأنّ فهمه يحتاج إلى تدبّر. ويُلحظ أنّ من يعتاد تدبّره تنشأ لديه منهجيّة في التفكير والاستنباط. وإذا وُجدت هذه المنهجيّة أمكن أن يوجد الإنسان المبدع. وكل من يتعمق في تدبّر القرآن الكريم ودراسته يلمس الترابط بين معاني كلماته، وجُمله، وآياته، بل وسوره. ولا يزال علماء التفسير يشعرون بحاجتهم إلى التعمق أكثر من أجل إبصار معالم البنيان المحكم للألفاظ والجمل القرآنيّة.



العلوم المنهجيّة أولاً:

الدارس لتاريخ الفكر الإسلامي يلاحظ أنّ ظهور علم أصول الفقه، وعلم أصول الحديث، وعلم الكلام، وعلم النحو والصرف،... كل ذلك كان قبل ظهور علوم مثل؛ الطب، والصيدلة، والكيمياء، والبصريات…وغيرها من العلوم. من هنا، فقد ظهر العلماء والفقهاء واللغويّون من أمثال مالك، والشافعي، والخليل بن أحمد، قبل ظهور الرازي وابن سينا وجابر بن حيّان... وغيرهم. وهذا أمر بدهي؛ فعلم أصول الفقه هو علم في منهجيّة الاجتهاد والاستنباط، وعلم أصول الحديث هو علم في منهجيّة البحث التاريخي، وعلم النحو هو علم قائم على منهج الاستقراء، وعلم الكلام هو الأساس الفلسفي للفكر الإسلامي.

لقد أدّى التطور في منهجيّة التفكير لدى المسلمين إلى ظهور العلوم المختلفة؛ فكانت البداية تتعلّق بالأسس المنهجيّة، ثم كانت الثمار المتمثلة بالعلوم المختلفة، ومنها العلوم الكونيّة. ويمكننا اليوم أن نقسّم تاريخ الفكر البشري إلى مرحلتين؛ مرحلة ما قبل الإسلام، ومرحلة ما بعد الإسلام؛ حيث تميّزت المرحلة الثانية بمنهجيّة مستمدة من القرآن الكريم، أدّت إلى نهضة فكريّة وعلميّة هائلة أفرزت في النهاية الواقع العلمي المعاصر، إذ من المعلوم أنّ الغرب قد تتلمذ على المسلمين، وعلى وجه الخصوص في الأندلس وجامعاتها، إلى درجة أنّهم لم يعرفوا آباء الفلسفة الغربية من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو... وغيرهم من الفلاسفة اليونانيين، إلا من خلال ترجمات علماء المسلمين.



التدبّر يورث المنهجيّة:

إذا كان القرآن الكريم قد طوّر منهجيّة التفكير لدى الصحابة والتابعين وأتباعهم… فلماذا لا يؤثر اليوم في منهجيّة التفكير لدى كثير من المسلمين، على الرغم من كونهم يتلونه صباح مساء؟!

للإجابة عن هذا التساؤل نقول: اللافت للانتباه أنّ الغالبيّة الساحقة ممن يقرأ القرآن الكريم اليوم لا تزيد على أن تتلوه بصوت مسموع، أو بشفاه متحركة، ويندر أن نجد من يقرؤه متدبراً لمعانيه، متفكراً في مُشكلاته؛ إذ لا تتشكّل منهجيّة التفكير لدينا إلا عند تسريح الفكر في معانيه، وتراكيبه وأساليبه وتصريفاته…

والدارس لتاريخ التفسير والفقه، ومناهج المفسرين والفقهاء، يدرك أنّ بوادر هذه المنهجيّة قد تجلّت لدى المفسرين والفقهاء المجتهدين. أي لدى الذين تعاملوا بعمق مع النص القرآني الكريم. وحتى يتحقق الأثر المنشود على مستوى مناهج التفكير، لا بد من أن نضيف إلى تلاوة القرآن الكريم التدبّر. بل لا بد من تقديم التدبّر على التلاوة، والفهم على الحفظ. ولسنا نقلل من أهميّة التلاوة والحفظ؛ فالمتدبّر الحافظ هو أقدر من غيره على النظر بشمول إلى القرآن الكريم، وهو الأقدر على تفسير القرآن بالقرآن، ثم هو الأقدر على الملاحظة والربط....وفوق ذلك كله يبقى الحفظ عن ظهر قلب من مقاصد التربية القرآنيّة.



الصحابة والقرآن:

عندما كان الصحابة والتابعون، رضوان الله عليهم، وهم أهل اللغة والبيان، يتدبّرون القرآن الكريم، فيشكل عليهم، يأخذ ذلك حظاً من تفكيرهم، ويلجأ بعضهم إلى بعض يتشاورون؛ فهذا معاوية، يدخل عليه عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، فيقول معاوية: "لقد ضربتني أمواجُ القرآن البارحة، فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك"، ويعرض عليه آية من الآيات التي استشكلها، فيبيّنها عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما. وهذا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وفي أكثر من موقف، يجمع الصحابة ويناقش معهم معنى آية كريمة أو أكثر. أما اليوم، فيكتفي الكثير من الناس، عند استشكال معنى آية من الآيات، بالرجوع إلى كتابٍ من كتب التفسير. ويندر أن يتمّ الرجوع إلى أكثر من كتاب في التفسير، ويندر أيضاً أن تتم مناقشة ذلك مع آخرين للتوصل إلى فهم أفضل. فلا عجب بعد ذلك أن لا تتشكل عند الكثيرين منا المنهجيّة المأمولة. في المقابل لا عجب أن يتأثر الصحابة والتابعون بالقرآن الكريم، ثم تتشكّل لديهم المنهجيّة في التفكير، فيظهر أثر ذلك فيما تحصّل من تطوّر سريع ومتصاعد على مستوى الفكر والمعرفة ومناهج البحث والعلوم المختلفة، حتى بلغ كل ذلك أوجهُ في القرن الرابع الهجري.



المنهجيّة وتقسيمات القرآن الكريم:

قلنا إنّ عدد كلمات القرآن الكريم يزيد قليلاً عن 77 ألف كلمة، وهذا يعادل 300 صفحة. ويتألف القرآن الكريم من 114 سورة، منها السور الطويلة ومنها القصيرة. ولا تزيد أطول سورة عن 24 صفحه، في حال كون كل صفحة تتألف من 260 كلمة. في المقابل تتألف أقصر سورة من عشر كلمات. أما باقي السور، فهي بين ذلك طولاً وقِصراً. وتتألف كل سورة من عدد من الآيات. وإذا عرفنا أنّ متوسط عدد كلمات الآية الواحدة هو 12.4 كلمة، وأنّ بعض الآيات تتكون من كلمة واحدة أو كلمتين، تبيّن لنا أنّ هذا الأسلوب يختلف عما اعتاده البشر في كتاباتهم.

في أكثر من مّرة أعرضنا عن شراء كتب نفيسة بسبب أسلوب العرض فيها؛ حيث السرد المتواصل، فلا تبويب، ولا فقرات، ولا علامات ترقيم... ولو عُرِضت علينا مثل هذه الكتب بالمجّان لترددنا في أخذها، لعِلمنا أنّها ستأخذ من مساحات رفوف المكتبة، ولعِلمنا بأن لا دافعيّة لدينا لقراءَتها، بل إنّ القراءة فيها ضرب من المعاناة. وقد تُفاجأ بعد حين بهذا الكتاب نفسه وقد أُخرِج بثوب جديد، وقُسّم إلى فُصول وأبواب، وازدان بالعناوين الواضحة والفقرات القصيرة، ولوّنت فيه بعض العبارات الهامّة، ووضعت الفواصل والحدود بين الفصل والفصل، والباب والباب، والفقرة والفقرة، والجملة والجملة... نعم، فبإمكاننا الآن أن نركز على التفاصيل، وأن نُلمّ بكُلّ صغيرةٍ وكبيرة؛ فقد أصبح الوضوح نوعاً من الجمال الجذّاب، والمتعة الدافعة. فلا بُد من الفصل والتحديد، حتى يتسنّى للقارئ أن يركّز ويميّز. ألا ترى أنّ القرآن الكريم يتألّف من 114 سورة، وكل سورة هي عدد من الآيات؟! فهل من قبيل الصدفة أن تسمّى (السورة) سورة؟! فكلمة سورة تذكِّرُنا بالسُّور، الذي يفصل بين قطعة أرضٍ وأخرى وبيتٍ وآخر. وهل من قبيل الصّدفة أن تسمّى الآية آية؟! فهذه الكلمة تُذكرنا بالعلامة الواضحة، والتي يُشكّلُ وُضوحها دليلاً، هو في النهاية حجّة وبرهان.

وقد يكون هذا المنهج في العرض من أسرار تأثير القرآن الكريم. والمتدبّر يلاحظ أنّ الآيات المكيّة غالباً ما تتسم بالقصر، في حين أنّ الآيات المدنية، إجمالاً، تتسم بالطول النسبيّ. ومعلوم أنّ التركيز في المرحلة المكيّة كان على الجانب العَقَديّ. وهذا يعني أنّ طرح العقيدة يحتاج إلى الأفكار المركّزة والسريعة، بعيداًَ عن التطويل والتفريع. وهذا يرشدنا إلى اعتماد أسلوب الشِّعار في الدعوة إلى الأفكار والعقائد؛ فذلك أسرع في تبليغ الفكرة وتعميمها ويجعلها أسهل وأسرع تناولاً. أما أسلوب الفلاسفة، فلا يصلح إلا لفئة قليلة متخصصة.

من ينظر في سورة الإخلاص، مثلاً، يلاحظ أنها شعار واضح ورسالة سريعة وحاسمة، تجلجل بعقيدة التوحيد: "قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد". وهذا يرشدنا إلى المنهجيّة التي يجدر بنا أن نتبعها عند مخاطبة عامّة الناس وعند الدعوة إلى الفكرة والمبدأ. ويدعونا ذلك أيضاً إلى الاستفادة من منهجيّة القرآن المكي والمدني، لتوظيفها في مخاطبة الناس، بحيث يكون لكل مقامٍ مقال.



أولوية المنهجيّة:

غالباً ما يهدف الكُتّاب في كتاباتهم إلى تزويد الناس بمعلومات وخبرات جديدة. لذلك فهم يتسلسلون في الأفكار من البداية وحتى النهاية. ومن ذلك تتسلسل الأبواب والفصول. ويكون ذلك واضحاً غاية الوضوح وإلا عُدّ عدم التسلسل خللا وقصوراً. وهذا أمر مفهوم في العمل الذي يُقصد به نقل المعلومة والخبرة. أمّا إذا أردنا الحث على التفكير والتدبّر وخلق المنهجيّة السويّة في التفكير والبحث والاستنباط، فإنّ أسلوب العرض يجب عندها أن يختلف؛ فلا نعود بحاجة إلى التسلسل الواضح، بل نكون بحاجة إلى التسلسل الذي يجتهد القارئ في اكتشافه.

عند تدبّر القرآن الكريم نقوم أولاً بتدبّر آية ثم آية أخرى. فإذا فهمنا معانيها يصبح من السهل علينا بعد ذلك أن نربط بين الآيات. ويُفترض بعدها أن نلاحظ أنّ آيات السورة جاءت في مجموعات. وإذا فهمنا معاني المجموعة الأولى، ثم المجموعة الثانية، أمكن أن نربط بين معاني المجموعات. وبعد أن ننتهي من فهم سورةٍٍ كآل عمران، مثلاً، نقوم بتدبر سورة النساء. فإذا فهمناها؛ كلمات وجُملاً وآيات ومجموعات، أصبح بإمكاننا أن نربطها بسورة آل عمران التي تسبقها في ترتيب المصحف. ولا يسهل علينا أن نربطها بسورة المائدة، التي تليها، حتى نتدبر سورة المائدة أيضاً، وذلك في مستوى الكلمات والجمل والآيات والمجموعات. وكمال الفهم للسورة الأولى، و كمال الفهم للسورة الثانية، يؤدّي ذلك كله إلى استكشاف الروابط والصلات بين السورتين،...الخ. وتكون المفاجأة عندما نكتشف أنّ القرآن يفسر القرآن، فيتجلّى لنا بناءاً متكاملاً متراصاً. وسيبقى الإنسان ينظر في تفاصيل هذا الكتاب العظيم من أجل تصوّرٍ أفضل لحقيقة بنائه، تماماً كما يفعل وهو يحاول أن يفهم حقيقة بناء الكون البديع.



المنهجيّة والقصص القرآني:

المتدبر للقرآن الكريم يلحظ أنّ بعض القَصص القرآني يتكرر في أكثر من سورة. والذين يظنون أنّ القرآن الكريم نزل ليزوّد الناس بمعلومات ومعارف قد يرون في هذا التكرار ظاهرة غير إيجابية. وهم بذلك إنما يذهلون عن حقيقة أنّ القرآن الكريم يُربّي الناس تربية شاملة، ومن ذلك تربيتهم على منهجيّة التفكير. والملحوظ أنّ القَصص القرآني يختلف عن القصص البشري، الذي يغلب أن يكون سرده متسلسلاً ومفصّلاً. بل هو، إن صحّ التعبير، لقطاتٌ قد تطول قليلاً وقد تقصُر. ولكنها إن طالت تبقى في إطار القصة القصيرة، بل القصيرة جداً. أما التكرار في القصة القرآنيّة فإنّه ظاهري يتوهمه من يتلو القرآن الكريم من غير تدبّر. أما أهل التدبّر فيعلمون أن لا تكرار إلا في الشكل، أما في الجوهر فلا تكرار. من هنا نجد من المناسب أن نلفت الانتباه إلى الآتي:

1. تكرار القصة القرآنيّة لا يعني أنّها تتكرر بتفاصيلها؛ بل قد تزيد في بعض التفاصيل والحيثيّات وقد تنقص.

2. تختلف السياقات التي يتكرر فيها القَصص القرآني، مما يعني أنّ المعنى المستفاد يختلف باختلاف السياق.

3. تُستبدل بعض المفردات أو الجُمل بغيرها، ويكون تقديم وتأخير في الألفاظ والجُمل. ويختلف الجَرْس، وتختلف الموسيقى، وتختلف فواصل الآيات.

4. تختلف أهداف القصة القرآنيّة عن أهداف القصة في كتابات البشر. من هنا تتعدد المقاصد عند تكرار القصة.

5. إنّ الأسلوب القرآني في التكرار يُطوّر في منهجيّة التفكير لدى المتدبّر، لأنّه يساعد على ملاحظة الأنماط المحتملة، والصيغ التي يمكن أن تتعدد، والتغييرات المطلوبة لتحقيق الانسجام مع السياق من حيث الجوهر، ومن حيث الشكل البلاغي الذي لا بد أن تتجلى فيه المعاني. ثم هو يعين على تصوّر البدائل الممكنة، والاحتمالات المُدّخرة.

الذي خلق هو الذي أنزل:

تتألف المادة من: إلكترونات، وبروتونات، ونيوترونات. ومجموع هذا يسمّى ذرّةً، ومجموع الذّرات يسمّى جُزيئاً، ومجموع الجزيئات يسمّى مُركّباً. ومن هذه الذرات والجزيئات والمركبات تكون التنوعات التي تبدو لا متناهية. ولو أخذنا عنصر البوتاسيوم، كمثال، فسوف نجد أنّ اختلاف نسبة هذا البوتاسيوم في النباتات المختلفة يؤدّي إلى اختلاف الأطعام. ولا يقال إنّ طعم الموز، مثلاً، هو نفسه طعم التفاح على اعتبار أنّ مردّه إلى البوتاسيوم، فقد أدّى اختلاف نِسَب البوتاسيوم إلى اختلافٍ كبير في المذاق. وإذا تعمّقنا أكثر نجد أنّ مكونات التفاحة هي في الحقيقة إلكترونات وبروتونات ونيوترونات، وهذه هي نفسها مكونات الحديد، والنحاس...

فالتكرار في عالم المادّة هو الأساس الذي يقوم عليه كل التنّوّع والثراء الذي يتصف به الوجود. وإذا كان تكرار الكلمة لا بد منه وتكرار الجملة لا بأس به، فإنّ لتكرار القصة فوائد كثيرة؛ حيث يؤدّي ذلك إلى ظهور أبنية جديدة، ويولّد صوراً متنوعة، ويلهم آفاقاً رحبة، ويكشف عن دروس غنيّة، ويخلق منهجيّه في التفكير والاستنباط.

وعليه فإنّ المطلوب هنا هو تركيز الاهتمام بالنص القرآني من أجل محاولة استكشاف الأنماط التي تؤسس لمنهجيّة سويّة في التفكير". ا.هـ



العرب والإسلام





يُقدّر بعض أهل التاريخ زمن إبراهيم، عليه السلام، بما يقارب سنة 1800 ق.م . ومعلوم أنّ إبراهيم، عليه السلام، قد وُلِد له إسماعيل وإسحق، عليهما السلام. أما إسماعيل فقد كان رسولاً لأهل الجزيرة العربيّة. واللافت أنّه لم يُعرف في العرب نبي ولا رسول بعد إسماعيل، عليه السلام، إلا محمد، صلى الله عليه وسلم. وبين محمد وإسماعيل، عليهما السلام، ما يقارب الـ 2400 سنة. في المقابل نجد أنّه خلال 1800 سنة، وهي المدّة من إبراهيم حتى عيسى، عليهما السلام، قد جاء من نسل إسحق، عليه السلام، عدد كبير من الأنبياء والرسل أمثال: موسى، وداود، وسليمان، وإلياس، واليسع، وزكريا، ويحيى، وأيوب، وآخرين لم يذكر القرآن الكريم أسماءهم.

إنّ هذه التجربة التاريخيّة تُثبت أنّ الأمة العربيّة، التي كانت تسكن الجزيرة العربية، محصنة أكثر ضد عوامل الانحراف والانحلال، ومن هنا استحقت بجدارة أن تحمل رسالة الإسلام. جاء في الآية 124 من سورة الأنعام:" ... الله أعلمُ حيث يجعلُ رسالته ..." .

يرى الأستاذ محمد المبارك، في كتابه: (الأمة العربيّة في معركة تحقيق الذات)، أنّ العرب، قبل الإسلام، كانوا يتميّزون على غيرهم من الأمم بنمو الجانب العقلي، وبخلق يقدّر القيم المعنويّة. وإليك توضيح ذلك:



1. نمو الجانب العقلي: ينبغي التنبيه هنا إلى أنّ النمو العقلي غير مرتبط بالنمو العلمي والتكنولوجي؛ ففيلسوف مثل أرسطو كان يتميّز بنمو الجانب العقلي ولكنه لم يبلغ في علومه ما عند صبي يعيش في زماننا

هذا. وإذا كان بإمكاننا أن نقدّر مستوى النمو العقلي لشخص ما بالإصغاء إليه عندما يتكلّم، فإنه بإمكاننا اليوم أن ننظر في الشعر الجاهلي فنرى تجليات النمو العقلي عند العرب قبل الإسلام. وعندما نعلم أنّ العرب كانت تلتقي في أسواق أدبية، وأنّهم قد بلغوا في البلاغة والقدرات النقديّة مبلغاً عظيماً، ندرك أنهم كانوا قد غادروا المرحلة الحسيّة من التفكير وأصبح تفكيرهم مجرداً؛ أي أصبحوا قادرين على التعامل مع عالم المعنى والفكر النظري.

2. تقديرهم للقيم: من يقرأ تاريخ العرب في الجاهلية يدرك أنّهم كانوا يُقدّسون القيم الأخلاقيّة، وهذا واضح في تاريخهم الفكري والأدبي. وقد تميّزوا على باقي الأمم بالكرم والشهامة والفروسيّة والتضحية ...

على الرغم من ذلك كله ما زلنا نصفهم بالعرب الجاهليين. فما حقيقة جاهليتهم؟!



كانت جاهليتهم في أمور منها:

1. تصوراتهم العقديّة، وممارساتهم العباديّة.

2. مبالغاتهم في تقدير القيم؛ فلم يكن وأد البنات، مثلاً، نابعاً عن انحلال خلقي، بل كان الدافع إليه الحساسيّة الشديدة تجاه قيم الشرف. وحروب الثأر أيضاً كان الدافع إليها الوفاء، والأنفة من الذل والاستكانة.

3. بعض العادات السلبيّة؛ فأخلاقهم، مثلاً، تأبى أن تزني المرأة الحرة، ولكنهم يقبلون ذلك للأَمة المستعبدة. وهم لا يرون في زنا الرجل عاراً. ولم يكونوا يورّثون المرأة. وغير ذلك من العادات، التي نجدها في كثير من الأمم حتى يومنا هذا.



الدين جعلهم أمة:

المعروف تاريخيّاً أنّ الجزيرة العربية لم تشهد، قبل الإسلام، قيام دولة تجمع العرب في كيان سياسي واحد، وإنما كان ذلك، أول ما كان، على يد النبي، صلى الله عليه وسلم. وإذا كان ذلك كذلك، فما الذي كان يُشعر العرب بأنّهم أمّة؟!

إنّه الدين، وإنها القِبلة الواحدة؛ فمن إسماعيل حتى محمد، عليهما السلام، اعتاد العرب أن يجتمعوا في مكة مرّة واحدة في العام، على أقل تقدير. وحتى عندما انحرفوا، فعبدوا آلهة متعددة، وجدناهم يُحضرون هذه الأصنام فيضعونها في الكعبة. وقد أدّى اجتماعهم لما يقارب الـ 2400 سنة إلى وجود لغة مشتركة يفهمها كل العرب، سُميت فيما بعد بلهجة قريش. وأدّت اللغة المشتركة هذه إلى اجتماعهم من أجلها في أسواق أدبيّة. فالدين إذن هو الذي صنع منهم أمة ابتداءً، ثم جاء الإسلام فأعاد صياغتهم وجمعهم في نظام فكري وسياسي واحد، فكانوا قادة هداة لم يعرف التاريخ لهم مثيلاً.


كانت مقدّمات لا بد منها:

1. نمو عقلي وتفكير مجرد.

2. تقدير للقيم المعنويّة.

3. لغة أدبية مشتركة ومتفوقة.

4. وعيهم وإدراكهم لحقيقة أنهم أمة.

هذه المقدمات كانت ضروريّة لنزول رسالة الإسلام، وذلك للآتي:

1. القرآن الكريم معجزة فكريّة. وهذا يحتاج إلى نمو عقلي يساعد العربي على فهم الرسالة وبالتالي على حملها إلى باقي الأمم.

2. القرآن معجزة بلاغيّة. وهذا يحتاج إلى أمة متميزة في هذا الجانب، بحيث تقدّر ذلك، وتفهمه، وتتفاعل معه، وبالتالي تكون مُهيّأة لحمل رسالة الإسلام، وتبليغه للناس، كل الناس.

3. حمل الرسالة يحتاج إلى فهم متميز وأخلاقيّة متفوّقة، ومستوى عالٍ من القدرة على البذل والتضحية.

4. رسالة الإسلام رسالة عالميّة جاءت للبشرية جمعاء، وهي تحتاج إلى أمة لتحملها وتستمر في حملها إلى يوم القيامة.

بذلك يتضح أنّ الأمة العربيّة كانت تُصنع في الجزيرة العربيّة، وتُهيّأ لتحمل الرسالة الخاتمة. بل إنّ رسالة إسماعيل، عليه السلام، كانت المقدمة التي قادت إلى النقطة التي التقى فيها قدَر العرب بقَدَر الرسالة الخاتمة. وجاء الواقع ليثبت ويجلّي هذه الحقيقة؛ فلم تعرف البشرية، في كل تاريخها، أمّة هادية تحمل الحقيقة إلى البشرية جمعاء إلا أمة واحدة هي أمّة العرب. ولم يعرف التاريخ أداءً مقارباً لأدائها في التبليغ والاستقطاب. وأنت تعجب من استيعابهم للفكرة، ورغبتهم الشديدة في تبليغها، وقدرتهم الخارقة على اقتحام الحواجز وإسقاط القوى والإمبراطوريّات الظالمة.

لم تنته وظيفة الأمة العربيّة بتبليغها الرسالة في فجر الإسلام، بل هي وظيفة مستمرة باستمرار وظيفة الإسلام، الكائنة إلى يوم القيامة. وستبقى عناصر شخصيتها الأولى قائمة في الأجيال المتعاقبة، مما يجعلها قادرة على النهوض من كبواتها، لتعود إلى فاعليتها الفذّة في عالم الهداية.

لقد استطاع الاستعمار الغربي في القرون الأخيرة أن يحتل الغالبيّة العظمى من بلاد العرب والمسلمين. ولم يقتصر الأمر على الغزو العسكري، بل تعدّاه إلى الغزو الفكري والحضاري. ومما زاد الأمر سوءاً أنّ ذلك كله قد حدث في مرحلة تخلف الأمة، وعلى وجه الخصوص تخلفها في الجانب الفكري والعلمي، فكان من المتوقع أن تُلحق الأمة بثقافة الغرب، لأنّ الهجمة كانت شرسة وشاملة، شُنّت على أمة بدت فاقدة لكل الأسلحة التي تساعدها على المقاومة والتصدّي. بل ظهرت، في بعض لحظات التاريخ، مأخوذة ومبهورة بما لدى الغرب من ثقافة وحضارة.

ثم كانت المعجزة؛ فإذا بالأمة تعود إلى ذاتها الحضاريّة، وتكتشف الإسلام مرّة أخرى، فكأنه تنزّل عليها ثانياً. وكل المؤشرات المعاصرة تقول إنّ الأمة لم تعد في موقع الدفاع عن الفكرة الإسلاميّة، بل باتت تقوم بهجمة مضادة على المستوى الفكري والعقدي، وذلك على الرَُغم من ضعف وسائلها العلميّة والتكنولوجيّة، وتخلُّفها النسبي في عالم المدنيّات. بل لقد غدت متفوقة في المستوى الثقافي والعقدي إلى درجة أن نجد بلداً كفرنسا تتنكر لقيم الديموقراطيّة التي ولدت في ربوعها من أجل أن تحمي ثقافتها من الغزوة المضادة، التي بدأت تُعلن عن نفسها في صورٍ ومظاهر مختلفة. وما قضيّة الحجاب التي أثيرت في فرنسا والغرب إلا بعض إرهاصات تداعي الثقافة الغربيّة أمام الفكرة الإسلاميّة.

لقد دخل الاستعمار الغربي الفلبين والمسلمون فيها أكثريّة، وخرج منها وهم أقلية. ودخل أندونيسيا ونسبة المسلمين 100% والآن تقارب الـ 95%. وقد تكرر ذلك في أكثر من بلد إسلامي، ولكنه لم يحصل قط في أيٍّ من البلاد العربيّة، بل على العكس من ذلك فإنّ نسبة المسلمين في بعض البلاد العربيّة قد زادت. وهذا إن دلّ فإنّما يدل على أنّ العربي المسلم مُحصن أكثر من غيره تجاه كل الغزوات الفكريّة، وهو وإن أصيب وأخذ في لحظات تراجع وعيه، إلا أنّه ما لبث أن عاد إلى ذاته الحضاريّة، وانتفض بعقيدته التوحيديّة. إنّها الشخصيّة المحفوظة بحفظ الرسالة الإسلاميّة.
واليوم يتجلى عجز الغرب الثقافي بلجوئه إلى القوة العسكريّة من أجل محاصرة الفكرة الإسلاميّة. وقد بات يستخدم كل وسائله المتطورة لتشويه صورة الفكرة الإسلاميّة في أذهان الشعوب الغربيّة، في محاولة لإقامة الحواجز التي يمكن أن تصد الحقيقة فلا تصل إلى تلك الشعوب، والتي عانت طويلاً من ظلمات الإلحاد والمادّيات وغدت تبحث عن طوق النجاة الذي باتت تجده في الإسلام. وما الجموع الغفيرة التي تدخل الإسلام في الغرب إلا المقدّمات التي تُرهص بإمكانية تكرار تجربة الإسلام الأولى على يد العرب مرّة أخرى، وهذا قد يفسر لنا بعض دوافع الغرب في حرصه الشديد على محاصرة العرب، ومحاولة تأخير نهوضهم، دون غيرهم من الأمم.

القسم الثانوي الثالث : من أخطاء بعض المتصوفة:


من أخطاء بعض المتصوفة:
قال تعالى : ( … يا أهل الكتاب لا تغْلوا في دينِكم ….) الآية 170 / من سورة النساء
فالله تعالى ينهى عباده عن الغلو والإفراط في المدح ، المدح الذي يُخرج الممدوح من حيز البشرية إلى أن يتم إضفاء صفات ليست له ، ولم يستثن الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم من ذلك ، فقال له : قُلْ إنَّما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ .
وقد رأينا من بعض الفرق الإسلامية عجبًا ، ومن هذه الفرق فرقة الصوفية ، ولا أقصد أهل التصوف المتقدمين (أو من اقتفى أثرهم) الذين أسسوا التصوف من أمثال الجنيد والشبلي والحارث المحاسبي ….إلخ ، وإنما المقصود المتصوفون المتأخرون ، الذين أدخلوا على الإسلام عقائد ليست منه ، وليست فيه . وأدخلوا عليه سلوكيات ما أنزل الله بها من سلطان .
المتصوفون الأوائل كانوا على هُدًى ، كما ذكر الشيخ ابن تيمية والشيخ ابن القيم ذلك ، قال ابن تيمية في كتابه ( الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ) أن الجنيد رحمة الله عليه كان يقول : عِلْمُنا هذا مقيّد بالكتاب والسنة ، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث ، لا يصلح له أن يتكلم في علمنا ، أوقال : لا يُقتَدَى به .
وقال الشيخ ابن تيمية أيضًا ، أن أبا عثمان النيسابوري قال : مَن أمّرَ السّنّة على نفسه قولاً وفعلاً ، نطق بالحكمة ، ومَن أمّر الهوى على نفسه قولا وفعلا ، نطق بالبدعة ، لأن الله تعالى يقول : وإن تُطيعوه تهتدوا .
وقال ابن تيمية أيضًا أن أبا عمر بن نجيد قال : كل وجْدٍ لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل .
وقد ذكر ابن القيم أيضًا أن الأعلام الأوائل من الصوفية كانوا على هداية وعلم ، وقد ذكر ذلك في كثير من كتبه مثل كتاب ( الوسواس الخناس ) فصل ( لاعصمة إلا للأنبياء ) ، فقد اقتبس كثيرًا من أقوال الصوفية الأوائل للتدليل على أنهم كانوا ملتزمين بالكتاب والسنة ، ولم يقعوا في ما وقع فيه المتأخرون منهم من الشطح والادّعاءات الباطلة والضلالات الكثيرة .
نأتي على ذكر ما وقع فيه المتأخرون من أهل التصوف من الغلو والأخطاء فنقول :
[1] إنهم يدّعون العصمة في المشايخ ، فالعلاقة بين المريد وشيخه تكون أقرب إلى التقديس القائم على إلغاء العقل ومحو الذات ، فالمريد يشطب ذاته ونفسه من الوجود ، ويضع مكانها ذات شيخه سلوكاً وعقيدةً وفكرًا ، وإن خطورة هذه العلاقة ليست في محبة المريد لشيخه ، وإنما في عدم القدرة على رؤية أخطاء شيخه بصفته البشرية ، بل والأدهى والأمرّ أن المريد يقوم بتبرير أخطاء شيخه بتبريرات سخيفة تصل أحيانًا إلى تبني أفكار الملحدين دفاعًا عن شيخه وهذا مثال على ما أقول :
سمعتُ بأذنيّ أحد المريدين يدافع عن سلوك شيخه عندما ذكروا له أنهم لا يرونه يصلي ، فقال هذا المريد بلهجته العامية : أصل كتر السلام بيقل المعرفة وهذه الجملة عبارة عن مثل شعبي عندنا في مصر يقولونه للإنسان الذي يكثر الدخول عليك وكلما دخل عليك وضع يده في يدك بطريقة مملة ، وعندما تريد أن تمنعه عن ذلك تقول له هذا المثل .
أنظر إلى تبرير هذا المريد لسلوك شيخه ، حتى ولو كان هذا السلوك ترك الصلاة ، إنه تبرير سخيف ، ولو كان تبريره من أنواع التبريرات التي نسمع عنها من أن الشيخ فلان يصلي في مكة أو في المسجد الأقصى لكان الأمر أهون ، ولو أنه لايكون مقبولا عند العقلاء من الناس ، وذلك لأن فرق التوقيت بين البلاد يمنع تصديق هذه الحيلة في تبرير عدم رؤية الناس للشيخ فلان يصلي .
وكان من نتيجة هذه القداسة أن أُشيعت في أوساط المريدين كلمات غريبة عن عقيدتنا الإسلامية ، لقد أصبحنا نسمع في عالم الأسرار أقوالا ما كانت في أقوال السلف ، وما نزل بها قرآن ، وما نطقت بها سنة ، نتيجة لهذا الانحراف في المسلك حين يحب الإنسان الجاهل ربه ورسوله وصالحي أهلينه.
ومنها : المحبوب منسب ولو كله عيوب !!؟.
من اعترض انطرد !!
احذر من الاعتراض على شيخك ولو وجدته على كبيرة من الكبائر , فإن له حالا لا تعلمه !!؟
إن فكرة عدم الإعتراض فكرة دخيلة على الدين وليست منه ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول : من رأى منكم منكرًا فليغيره ولو كانت هذه الفكرة من الدين لأثبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان هو الأوْلى بذلك حينما اعترض عليه عمربن الخطاب رضي الله عنه لما توجه للصلاة على عبد الله بن أبي سلول رأس النفاق في المدينة حين مات ، ولم ينهه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاعتراض ، بل رد عليه مبينا وجهة نظره في هدوء المعلم الحكيم الهين اللين
إن خطورة هذه الدعوة أنها دعوة لإلغاء تحكيم الشريعة ، ويبدأ إلغاء تحكيم الشريعة أولا على المشايخ ، حتى إذا ثبتت فكرة أن فلانًا له حال مع الله فلا يجب الإعتراض عليه ، يبدأ سحبها على بقية الناس بعد ذلك ، فيتعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونصبح مثل بني إسرائيل الذين لعنهم الله لأنهم : كانوا لا يتناهوْن عن منكرٍ فعلوه
ونحن لا نرمي كل المحبين بهذا السفه في الرأي ، والعته في الفكر… وإنما هم شراذم من الخلق أعماهم الجهل ، وأصمهم العجز، وأبوْا أن يعترفوا بعجز وجهل ، فراحوا يشيعون حول شيوخهم عالمًا من الأسرار.
[2] ومن الأخطاء التي تشيع في أوساط أهل التصوف أنهم يعتقدون أن الله قد اتخذ شركاء له في إدارة الكون ، وهؤلاء الشركاء هم الأولياء ، ويقولون أن أولياء الله نوعان : { أهل الإرشاد } و { أهل التكوين } . فأهل الإرشاد هم الذين اختارهم الله لهداية البشر وإصلاح القلوب ، وتربيتها ، وتعليم الناس طرق التقرب إلى الله ، ويسمى أفضل أولياء عصره قطب الإرشاد .
أما النوع الثاني { أهل التكوين } فيطلق على الأولياء المناط بهم إصلاح معاش البشر ، وتنظيم أمور العالم ، ودفع المصائب عن الناس وهؤلاء يقومون بإصلاح شئون الدنيا بإذن من الله .
ويقولون أن أهل الإرشاد كالأنبياء ، وأن أهل التكوين كالملائكة الذين وصفهم الله ب { مدبرات الأمر }
إن من الأمور المدهشة حقًا أن عددًا لا يُحصى من البشر قد قبلوا بهذه العقيدة بمنتهى الإخلاص ، وأصبحت راسخة في نفوسهم ، ومسيطرة عليهم ، بحيث يتصرفون وفق مقتضياتها دون وعي لخطورتها ، ودون فهم لما يترتب عليها من هدم الدين من أساسه ، رغم أن كلاً من القرآن الكريم ، والسنة النبوية يخلو من أي شيْ يؤيد هذه العقيدة .
لقد سمعت أحدهم يقول : إن الله خلق الكون ثم تركه للأولياء يتصرفون فيه.
إن من الفطرة البشرية ، ومن الطبيعة الإنسانية أن يتوجه الإنسان بطلب حوائجه ممن يملك النفع ، و يملك دفع الضر ، وفي ظل هذه العقيدة لا يكون غريبًا عليهم أن يلجأوا إلى أوليائهم بالدعاء لدفع المصائب وجلب المنافع طالما أن الأولياء يملكون ذلك حسب مقتضى هذه العقيدة الشاذة
إن من مقتضيات هذه العقيدة أن معتنقيها يصرفون أنواعًا من العبادة التي يجب أن تكون لله ، يصرفونها إلى أوليائهم ، فنجدهم يحلفون بمشايخهم ، ويعتبرون أن هذا هو اليمين المغلظ الذي لا يحنثون فيه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حلف بغير الله فقد أشرك ، وكذلك نجدهم ينذرون لهم النذوروقد جعل الله تعالى النذر عبادة من العبادات التي يتوجه العبد بها إليه فقال تعالى : يوفون بالنذر .
إن أي عبادة يصرفها الإنسان لغير الله ، تكون دائمًا على حساب العبودية لله ، فليتنبه الغافلون .

القسم الثانوي الثالث : فلسفة التصوف عند إبن خلدون

فلسفة التصوف عند ابن خلدون

يعتبر ابن خلدون رائد علم الاجتماع في حين يجهل ويتجاهل بعض الغربيين أنهم هم من أسس علم الاجتماع وأما البعض الآخر يدرك أهمية ابن خلدون ويرى في مقدمته المشهورة أن التصوف الإسلامي علم من العلوم الشرقية الحادثة في الإسلام وهذا التصوف في نظره له أصول عند الصحابة والتابعين ومن بعدهم فطريقة الصوفية هي طريق الحق والهداية وأصله العكوف على العبادة والانقطاع الى الله تعالى والأعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه العامة من الناس من اللذات وطلب المال والجاه , ولقد كان الصحابة كما أورد ابن خلدون ينفردون عن الخلف في الخلوة للعبادة , ويقول: أن ذلك كان عاما في الصحابة والسلف الصالح ولم ينظر إليه كحالة متفردة وإنما كان الجميع يعايشون هذا التصوف والزهد في حياتهم اليومية دون أن يشوبها أي نوع من الابتعاد عن العبادة وأداء الفرائض والقيام بالعمل والإخلاص في كل مفردات الحياة اليومية للناس .

ويبين لنا أن ابن خلدون في مقدمته أن السبب في شيوع اسم الصوفية راجع إلى انه قد فشى الإقبال على الدنيا في القرن الثاني الهجري , وبعد كثير من الناس عن العبادة وجنحوا إلى مخالطة أهل الدنيا , وصار علم التصوف في الملـّة علما مدونا بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط , كما كان فيها الإنسان المتعبد يسلك في مقامات عدة فمنها المقام للمريد يبتغي منها محاسبة النفس للتخلص من الحزن والهم والكسل الذي يسعى من خلاله هي تلك الرياضة في مقام آخر هو العبادة التي لم تكن في الحالة الأولى , فالعبادة ينتهي فيها المريد إلى التوحيد وهي الغاية المطلوبة للسعادة التي يبحث عنها , فالمريد لا بد له من الترقي التي تأتي مجتمعة ومشتملة على الطاعة والعبادة وجوهرها الإيمان بالله عزوجل.

لذلك أختص المقبلون على الله العكوف على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة وكأن ابن خلدون يرد على مزاعم بعض المستشرقين والمستغربين عندما يتقولون على الصوفية ويدعون أن هذا التصوف لا أصل له من الشريعة واختلف المتصوفة والمتكلمين من الأتباع في هذا الدين في تفسير هذا السلوك فمنهم من عزا ذلك إلى جوهر الشريعة وآخرون ابتكروا فيه جوانب وانتقدوا جزءا منه , وبينما فريق آخر تكلم فيما هي المجاهدات والأحوال والرقى وصولا إلى المراتب والمشاهدات التي يجب أن تباح , وحتى في التعبير عنها تعجز اللغة عن الإفصاح عنها, إلا بإماءات وإشارات لم تكن واضحة إلا لمن قطع شوطا كبيرا في المراتب التي تم تعدادها فيقول في ذلك ( وسار علم الشريعة على صنفين )

1- صنف أختص به الفقهاء وأهل الفتية وهي الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات

2- صنف اختص به الصوفية وهو في القيام بالمجاهدة ومحاسبة النفس عليها والكلام وفي الأذواق و المواجد وكيفية الترقي من ذوق إلى ذوق وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك .ويستطرد العلامة ابن خلدون فيقول: فلما كتبت العلوم ودونت وألف الفقهاء في الفقه , وعلماء الكلام في الكلام وعلماء التفسير في التفسير دوّن رجال من أهل التصوف كتبا في الورع ومحاسبة النفس , ويستشهد في ذلك بما فعله القشيري في كتاب الرسالة والسهروردي في كتاب (عوارف المعارف) كما جمع الأمام الغزالي بين الأمرين وذلك في كتاب (إحياء علوم الدين) كتب الأمام الغزالي عن الورع والإقتداء ثم بين آداب الصوفية و سننهم وشرح اصطلاحاتهم وأدق معارفهم وأصبح علم التصوف الإسلامي علما مدونا بعد أن كان التصوف عبارة عن عبادة فحسب والحقيقة أن التصوف مثله في ذلك مثل علم الفقه والكلام والتفسير والحديث كان علما يتلقى من صدور الصحابة والسلف , وأن لم يكن في القرن الأول والثاني قد دوّن مثل كثير من العلوم الإسلامية , إلا انه كان على الحقيقة موجودا في صدور الصحابة والتابعين وتابع التابعين لقد كان الشغل الشاغل للصحابة في الصدر الأول للإسلام هو العمل الجاد على حفظ وترتيب القرآن بالسنة ثم أصبحت الحاجة ماسة إلى تدوين العلوم , فدوّنت علوم الفقه والتفسير والحديث ثم نشأ علم الكلام ثم التصوف , أو كما يسميه ابن خلدون ( الطريقة ) أو آداب القوم إن المجاهدة والخلود والذكر يتبعها غالبا كشف حجاب الحسن و الاطلاع على عوالم من أمر الله ليس لصاحب الحس أدراك شيء منها . أن الإنسان بما هو إنسان يتميز عن سائر الحيوانات بالإدراك .

ويستنتج ابن خلدون من ذلك أن المريد في الطريق الصوفي يتحصل في كل مجاهدة وذلك الحال , إما أن يكون عبادة تترسخ في نفسه فتصير له مقاما, وأما أن تكون صفة للمريد , وهذه الصفة تكون حاصلة للنفس كأن تكون حزن , أو سرورا , أو كسلا , أو نشاطا إلى غير ذلك من مقامات , وينتهي ابن خلدون إلى القول أن المريد ما يزال يترقى من مقام إلى مقام إلى أن يصل في النهاية إذا صدق إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة , فالهدف النهائي للمريد الصادق في الطريق الصوفي في رأي ابن خلدون هو الوصول إلى التوحيد وشهود أن لا إله إلا الله ويؤيد ذلك بالحديث النبوي من قول الرسول (ص) من مات يشهد أن لا أله ألا الله دخل الجنة ) ويريد ابن خلدون أن ينبه على أن الترقي من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام لابد أن يبدأ بالأيمان والطاعة والإخلاص وهنا تصاحب مجاهدة المريد الأحوال والصفات وتأتي عنها نتائج وثمرات فإذا وقع تقسيم من المريد , أو خلل في الثمرات التي يتحصل عليها, فإنما ذلك نتاج لالتفات المريد الحظوظ الدنيوية , أو لوجود آفات كالخواطر النفسية , أو الشيطانية لذلك يحتاج المريد إلى أعاده النظر إلى نفسه وعلاج عيوبها والرجوع إلى محاسبة نفسه في سائر أعماله لأن النتائج مقترنة بالأعمال .

ويضيف ابن خلدون (إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالبا كشف حجاب الحس والاطلاع على عوالم من أمر الله وهو ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها والروح من تلك العوالم , وسبب هذا الكشف إن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس وقويت أحوال الروح وغلب سلطانه , فالذكر كالغذاء لتنمية الروح , ولا يزال في نمو وتزايد إلى أن يصير شهودا بعد أن كان علما ويكشف حجاب الحس , ويتم وجود النفس الذي لها من ذاتها , وهو عين الإدراك , فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية والعلوم اللدنية والفتح الإلهي , وتقرب ذاته في تحقق حقيقتها من الأفق الأعلى أفق الملائكة) ولهذا يتميز المتصوفة من خلال تلك المجاهدات مشاهدات لا يدركوها غيرهم وكأنهم يدركون الواقعات قبل وقوعها

ويذكر ابن خلدون : حول الكشف , فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف ولا يتصرفون ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه بل يعدون ما يقع لهم من ذلك محنة ويتعوذون منه إذا هاجمهم , فالصحابة كانوا أوفر حظا في هذا المجال بالكرامات .

وفي موضع آخر من المقدمة يقول (ثم إن قوما من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب والمدارك التي وراءه واختلفت طرق الرياضة عنهم في ذلك باختلاف تعليمهم في إماتة القوى الحسية وتغذية الروح العاقل بالذكر حتى يحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها بتمام نشوتها وتغذيتها فإذا حصل بذلك زعموا أن الوجود قد انحصر في مداركها حينئذ وأنهم كشفوا ذوات الوجود وتصوروا حقائق كلها من العرش إلى الفرش , هكذا قال الغزالي رحمه الله في كتاب إحياء علوم الدين بعد أن ذكر صورة الرياضة , ولا يكون الكشف صحيحا كاملا عنده ,إلا إذا كان ناشئا عن الاستقامة )

وقد كان رأيه في الاستقامة للنفس كالانبساط للمرآة فيما ينطبع فيها من الأحوال , ولما عني المتأخرين بهذا النوع من الكشف تكلموا في حقائق الموجودات العلوية والسفلية وحقائق الملك والعرش والكرسي وأمثال ذلك وقصرت مدارك من لم يشاركهم في طريقة عن فهم أذواقهم ومواجدهم في ذلك , وأهل الفتيا بين منكر عليهم ومسلم لهم , وليس بالبرهان والدليل بنافع.

(وإن أول مراتب التجليات عندهم تجلي الذات على نفسه وهو يتضمن الكمال بإفاضة الإيجاد والظهور لقوله في الحديث الذي يتناقلونه كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفوني وهذا الكمال في الإيجاد المتنزل في الوجود وتفصل الحقائق وهي عندهم عالم المعاني والحضرة الكمالية والحقيقة المحمدية ويصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى , وهي مرتبة المثال ثم عنها العرش ثم الكرسي ثم الأفلاك ثم عالم العناصر ثم عالم التركيب , هذا في عالم الرتق , فإذا تجلت فهي في عالم الفتق ويسمي هذا المذهب مذهب أهل التجلي والمظاهر والحضرات هو كلام لا يقتدر أهل النظر على تحصيل مقتضاه لغموضه وانغلاقه وبعد مابين كلام صاحب المشاهدة والوجدان وصاحب الدليل وربما أنكر بظاهر الشرع على هذا الترتيب )

كما ذهب آخرون منهم إلى القول بالوحدة المطلقة , وهو رأي أغرب من الأول في تعقله وتفاريعه , ويزعمون فيه أن الوجود له قوى في تفاصيله بها كنت حقائق الموجودات وصورها وموادها والعناصر بهيولاها وزيادة القوة المعدنية ثم القوة الحيوانية والقوة الحيوانية تتضمن زيادة قوتها في نفسها , وكذلك القوة الإنسانية مع الحيوانية ثم الفلك يتضمن القوة الإنسانية وزيادة , وكذلك الذوات الروحانية والقوة الجامعة للكل من غير تفصيل هي القوة الإلهية التي انبثت في جميع الموجودات كلية وجزئية وجمعتها وأحاطت بها من كل وجه لا من جهة الظهور ولا من جهة الخفاء ولا من جهة الصورة ولا من جهة المادة فالكل واحد وهو نفس الذات الإلهية وهي في الحقيقة واحدة بسيطة الاعتبار.

إلا أن وحدة الوجود هذه يفندها ابن دهقان , بأن هذه الدركات البشرية شريطة لوجود المدرك الحسي (أما الموجودات المعقولة والمتوهمة هي مشروطة بوجود المدرك العقلي وليفترض عدم وجود المدرك البشري جملة لم يكن هناك تفصيل الوجود بل هو بسيط واحد فالحر والبرد والصلابة واللين بل والأرض والماء والنار والسماء والكواكب إنما وجدت لوجود الحواس المدركة لها لما جعل في المدرك من التفصيل الذي ليس في الموجود وإنما هو في المدارك فقط فإذا فقدت المدارك المفضلة فلا تفضيل إنما هو إدراك واحد وهو أنا لا غيره وهذا حال النائم إذا نام وفقد الحس الظاهر فقد فقد كل محسوس ولكن يؤخذ على ابن دهقان في هذا الأمر بوجود البلد الذي نحن مسافرون عنه وإليه يقينا مع غيبته عن أعيننا وبوجود السماء المظلة والكواكب وسائر الأشياء الغائبة عنا)

ولكن بعض المتصوفين المتأخرين يقولون إن المريد عند الكشف ربما يعرض له توهم هذه الوحدة ويسمي ذلك عندهم مقام الجمع ثم يترقى عنه إلى التمييز بين الموجودات , ويعبرون عن ذلك بمقام الفرق وهو مقام العارف المحقق , ولا بد للمريد عندهم من عقبة الجمع , وهي عقبة صعبة لأنه يخشى على المريد من وقوفه عندها فتخسر صفته , فقد تبينت مراتب أهل هذه الطريقة , وكذلك المتأخرين من المتصوفة , ومن المتكلمين منهم في الكشف قد توغلوا كثيرا في هذا الأمر, فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة , وملؤا الصحف منه مثل الهروي في كتاب المقامات وغيره وتبعهم ابن عربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف وابن الفارض وكان سلفهم من المخلصين للإسماعيلية واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم حتى ظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب ومعناه أنه رأس العارفين وهو مقام لا يساويه أحد في المعرفة حتى يتوفاه الله ليرث هذه المكانة لغيره .

أما ابن سينا في كتاب الإشارات في فصول التصوف منها فقال : جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد وهذا الكلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي , وإنما هو من أنواع الخطابة, ودانوا به ثم قالوا: بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء .

وكلامهم هذا في أربعة مواضع : الأول : الكلام في المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجد ومحاسبة النفس على الأعمال لتحصل تلك الأذواق التي تصير مقاما ليترقى منه إلى غيره , الثاني : الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب مثل الصفات الربانية والعرش والكرسي والملائكة والوحي والنبوة والروح وحقائق كل موجود غائب أو شاهد وتركيب الأكوان في صدورها , الثالث : التصرفات في العوالم والأكوان بأنواع الكرامات , الرابع ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من الكثير من أئمة القوم يعبرون عنها في اصطلاحهم بالشطحات تستشكل ظواهرها فمنكر ومحسن ومتأول .

عن الويب

القسم الإعدادي الثالث: كلمات القرآن الكريم:

                     باسم الله الرحمان الرحيم :


وقد خففنا مواد هذا القسم الثانوي الثالث لتتفرغ لدراسة وحفظ كلمات القرآن ما استطعت لعلك ترقى أكثر فأكثر لتدبره.
واللهم صل على محمد وآله والصحب


القسم الإعدادي الثاني :من آفات الرأسمالية :

من آفات الرأسمالية:

ان الرأسمالية لم تعد اليوم تلك الجنة التي وعد بها البشر منذ قرون طوال، إذ منيت بنكبات مريرة، والتي كان من أهمها تمخض الشيوعية عنها كرد فعل عنيف لنظام النفاق والتنافس المرهق. وتتلخص نقاط ضعف الرأسمالية فيما يلي:

1- انها نظام مادي ينطلق من مبدأ الاستبداد بالحكم من دون الله وهو لذلك ينطوي على أخطاء ضخمة لا يمكنه التملص منها، لأن البشر مهما أوتي من علم وقدرة وأخلاق فإنه لن يبلغ مستوى دين الله الذي يشع علما وقداسة وقوة.

وقد تقدم في فلسفة الرسالة، ما يدعونا إلى الأخذ بالإسلام جملة وتفصيلا.

2- الرأسمالية مادية لأنها تجعل القيمة التامة للمصلحة، وتقيِّم الحقائق الأخرى من دين وأخلاق وفق ما تنطوي عليها من تلك القيمة؛ قيمة المصلحة الذاتية. وهذا التقييم المطلق للمصلحةالذاتية يشكل جذر الأخطاء في النظام الرأسمالي.

3- كانت الرأسمالية مادية مرة ثالثة حين شرعت نظمها بعيداً عن التفكير في الحياة بعد الموت، تلك الحياة التي لو كانت واقعية وهي كذلك، لكانت أسمى من هذه الحياة. فينبغي ان يجند الإنسان بعض طاقاته لا أقل لتلك الحياة ويعمل وفق معطياتها. هكذا تنطلق الرأسمالية من منطلق مادي سواء آمنت بذلك أو رفضت الاعتراف به كسبا للمزيد من الأنصار.

4- بانطلاق الرأسمالية من العقلية النفعية وتأليهها المصلحة الذاتية، قضت على أية قيمة للأخلاق، ذلك لأن من انحصر تفكيره ضمن نطاق ضيق من المصلحة لا يستشرف ليرى جمال القيم الخلقية وروعتها. ولذلك نلاحظ ان الرجل الرأسمالي يعيش بعيداً كل البعد عن المناقبية السلوكية ولا ينظر إلى الحياة الا من زاوية المصالح الخاصة. وفي تاريخ الاستعمار والعنصرية نقرأ ألف مأساة ومأساة استلهمت من الذاتية الغربية.

وبالرغم من ان الوعي الشديد بسبل الانتفاع يهدي الإنسان إلى تعديل سلوكه وفرض بضعة قيم خلقية على نفسه، فإنها لا تعدو ان تكون متواضعة ومجتثة الجذور. ذلك ان صاحب المصلحة قليلا ما ينظر بعيدا ، ولئن نظر فقليلا ما يعتقد ان في مصلحته الالتزام بالأخلاق ولأن التزم فسرعان ما يتركها حينما تعارض مصالحه.

5- الرأسمالية إذ تنطلق من المصلحة في كل مناحي الحياة ، فإنها تعطي الحق للأكثرية في وضع النظم الصالحة لها وان كانت تضار مصالح الأقلية. فالمصلحة انما هي مصلحة الأكثرية، أما الأقلية فإنها ستعيش طبيعيا تحت رحمة الحكم ما دامت لا تملك ضمانا من الأكثرية برعاية شؤونها.

ولقد كانت الشريعة الإسلامية واعية لمأساة الأقلية فلم تجعل المصلحة ولا مصلحة الأكثرية هي القيمة النهائية للنظام، بل الحق والحق وحده كانت القيمة الأساس.

6- القضية المأساوية العظمى التي تورط فيها النظام الرأسمالي كانت عودة الأكثرية أقلية حاكمة، إذ ما أن أطلقت الحرية الاقتصادية حتى تكتلت الأدمغة البشرية الواعية ومضت قدما في تحقيق مصالحها الذاتية، وأحرزت لنفسها ثروة طائلة. والثروة كل شيء بالنسبة إلى أمة المصالح التي تسودها العقلية النفعية بصورة كاملة. ولهذا فقد أمست الثروة الطائلة التي كدستها الأقلية هي سيدة الموقف تماما.. إذ قامت الأقلية الثرية اعتمادا على ثروتها الطائلة وحفاظا عليها، قامت بضرب مواقع القوة التي كانت تهدد مصالحها. فالقوى السياسية لم تكن قادرة على الصمود بعيدا عن الثروة. وهكذا غزيت الأحزاب السياسية في عقر دارها، بإشتراء ضمائر سادتها وكذلك تنازلت السياسة للاقتصاد بصورة كاملة. وتنازل الاقتصاد للصفوة الثرية، فكانت هي دون الأكثرية، الحاكمة المطلقة الا انها غطت حاكميتها تحت غطاء واسع من الدعاية. فإذا بالناس يختارون ما توافق مصلحة الأقلية وهم يحسبون انها مصالحهم أنفسهم.

ولقد تسلحت الأقلية هذه باليقظة التامة بحيث كانت تتصدى لكل من أراد ان ينفلت من قبضتها و تقضي عليه قضاء تاما، ولكن بعد ان مزجت السم بالعسل والموت بالأحلام.

ولسنا بحاجة إلى القول بأن العقلية الاستعمارية وما أعقبت من مآسٍ وويلات وبلبلة وثورات كانت نتيجة حتمية للعقلية النفعية الرأسمالية.

ذلك لان الترابط بين العقليتين انما هو ترابط بين سبب ونتيجة وعلة ومعلول.. ذلك لأن تلك العقلية التي توحي باستثمار الأكثرية في بلدها هي التي تتطلع إلى استغلال البلاد الأخرى. هكذا كانت الرأسمالية جحيم الشعوب في الوقت الذي كانت تدعي انها الجنة الوارفة.


القسم الثانوي الثاني :إستراتيجيات جديدة لتحريف الفكر الإسلامي:

إستراتيجيات جديدة لتحريف الفكر الإسلامي:

بعد أحداث سبتمبر 2001، وتحديداً في عام 2003م، وضمن جهود أمريكا لرسم خريطة التغيير المزمع اتباعها في العالم الإسلامي، نشرت مؤسسة (راند) الأميركية تقريراً استراتيجيّاً بعنوان (الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء، والموارد، والإستراتيجيات) للباحثة في قسم الأمن القومي (شيرلي بينارد)، وفي ربيع عام 2004م قامت الباحثة نفسها بنشر ملخص



ولمن لا يعرف مؤسسة (راند)، فهي مؤسسة نشأت بصفتها مركزاً للبحوث الإستراتيجية لسلاح الجو الأميركي، ثم تحولت بعد ذلك إلى مركز عام للدراسات الإستراتيجية الشاملة، ويعدها المحللون السياسيون بمثابة «العقل الاستراتيجي الأميركي».



تقرير الباحثة (بينارد) الذي اهتم بتقديم توصيات عملية لصاحب القرار الأمريكي، يتكون من تمهيد وثلاثة فصول وأربعة ملاحق وقائمة مراجع:



الفصل الأول عنوانه: «رسم خريطة للموضوعات: مقدمة لآفاق الفكر في الإسلام المعاصر»، ويناقش فيه الوضع الراهن من حيث المشكلات المشتركة والإجابات المختلفة، ويحدد مواقف التيارات الإسلامية إزاء عدد من الموضوعات الرئيسية، مثل: الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتعدد الزوجات، والعقوبات الجنائية والعدالة الإسلامية، وموضوع الأقليات، ولبس المرأة، والسماح للأزواج بضرب الزوجات.



أما الفصل الثاني فهو يمثل صلب التقرير، وعنوانه: «العثور على شركاء من أجل تطوير وتنمية الإسلام الديمقراطي»، وهو يتضمن تصنيف التيارات الإسلامية المعاصرة إلى أربعة: العلمانيين، والأصوليين، والتقليديين، والحداثيين؛ حيث يحدد السمات الرئيسية لكل تيار وموقفه من المشكلات المطروحة.



أما الفصل الثالث وعنوانه: «إستراتيجية مقترحة»، فهو يتضمن توصيات عملية موجهة لصانع القرار الأميركي لاستبعاد التيارات الإسلامية المعادية وتدعيم التيارات الإسلامية الأخرى، وخصوصاً ما يطلق عليه التقرير التيارات العلمانية والحداثية، ولأنها أقرب ما تكون إلى قبول القيم الأميركية وخاصة القيم الديمقراطية.



وتقرر (بينارد) أن الغرب يراقب بدقة الصراعات الإيديولوجية العنيفة داخل الفكر الإسلامي المعاصر، وتقول بالنص: «من الواضح أن الولايات المتحدة والعالم الصناعي الحديث والمجتمع الدولي ككل تفضل عالماً إسلامياً يتفق في توجهاته مع النظام العالمي، بأن يكون ديمقراطياً، وفاعلاً اقتصادياً، ومستقراً سياسياً، تقدمياً اجتماعياً، ويراعي ويطبق قواعد السلوك الدولي، وهم أيضاً يسعون إلى تلافي (صراع الحضارات) بكل تنويعاته الممكنة، والتحرر من عوامل عدم الاستقرار الداخلية التي تدور في جنبات المجتمعات الغربية ذاتها بين الأقليات الإسلامية والسكان الأصليين، في الغرب، وذلك تلافياً لتزايد نمو التيارات المتشددة عبر العالم الإسلامي، وما تؤدي إليه من عدم استقرار وأفعال إرهابية».



وبناء على هذه الدراسة المتعمقة يقدم التقرير عناصر أساسية لإستراتيجية ثقافية وسياسية مقترحة لفرز الاتجاهات الإسلامية الرئيسية التي يجملها التقرير في أربعة وهي: العلمانيون، والأصوليون، والتقليديون، والحداثيون. وفي ضوء هذا الفرز تشن الولايات المتحدة الأميركية حرباً ثقافية - إن صح التعبير - ضد الاتجاهات الإسلامية العدائية، وفي الوقت نفسه تصوغ إستراتيجية لدعم الاتجاهات الإسلامية القريبة من القيم الأميركية، مادياً وثقافياً وسياسياً؛ لمساعدتها في الاشتراك في ممارسة السلطة السياسية في البلاد العربية والإسلامية.



ومن هنا نفهم كلمات العنوان الفرعي للكتاب التقرير «شركاء، وموارد، وإستراتيجيات»، فكلمة (الشركاء) تشير إلى هؤلاء الفاعلين الإسلاميين الذين سيقبلون - لسبب أو لآخر - الاشتراك مع الجهود الغربية عموماً والأميركية خصوصاً في عملية إعادة صياغة الأفكار الإسلامية، من خلال عملية إصلاح ديني لها خطوطها البارزة، والتي تصب في النهاية في استئصال الفكر المتطرف، مما سيؤدي بالضرورة إلى تجفيف «منابع الإرهاب»، أي: تحديد الشركاء الإسلاميين المناسبين، والعمل معهم لمكافحة التطرف والعنف و «الإرهاب»، وتشجيع قيم الديمقراطية على الطريقة الغربية الأميركية.



أما إشارة العنوان الفرعي إلى (الموارد) فمعناها ببساطة تخصيص ميزانيات ضخمة للإنفاق على المشروع، من خلال «وكلاء» يقومون بمهمة تجنيد الأنصار ونشر الكتب وإصدار المجلات التي تحمل الفكر الإصلاحي الإسلامي الجديد.



وتبقى كلمة (الإستراتيجيات) الواردة في العنوان الفرعي للكتاب، وهي تشير بكل بساطة إلى الإستراتيجية التي تقترحها الباحثة لشن حرب ثقافية ضد التيارات الأصولية الإسلامية من ناحية، والتعاون الفعال مع عناصر من التيارات العلمانية والحداثية والتقليدية الإسلامية من ناحية أخرى.



ومن الملفت للنظر أن الباحثة الأميركية ـ التي لا تتردد في وصف مهمة كتابها التقرير بأنه إسهام في عملية «إعادة بناء الدين الإسلامي Religion Building» ـ أفردت ملحقاً خاصاً لمناقشة (السنة النبوية) والتي تتمثل في الأحاديث، وقررت أنه من الضروري تنقية هذه الأحاديث؛ لأن بعضها يستخدم كأساس للفتاوى الدينية التي تستند إليها الجماعات الإسلامية المتطرفة في كراهية الآخر والهجوم على الغرب سياسة وثقافة.



لم يمض وقت طويل على هذا التقرير حتى تولى مركز ابن خلدون الذي يديره د. سعد الدين إبراهيم تنفيذ التوصيات الأميركية الخاصة بالإسهام في (إعادة بناء الدين الإسلامي) بما يتفق مع القيم الأميركية، ونظم في القاهرة مؤتمراً ـ مولته أمريكا حسماً من المعونة الأمريكية لمصر ـ موضوعه (الإسلام والإصلاح)، بمشاركة 20 باحثاً من جنسيات عربية وأوروبية وأميركية، بالتنسيق مع ثلاثة مراكز بحثية دولية، وقد صدر بيان عن المؤتمر ذكر فيه أنه تبنَّى الدعوة إلى «إعادة صياغة نسق معرفي جديد للفكر الإسلامي ومراجعة التراث الإسلامي مراجعة جذرية، والتصدي لأفكار المؤسسات التي تحتكر الحديث باسم الدين، ومواجهة وتفنيد مقولات ورؤى وأفكار التيارات الدينية المتطرفة، وتكثيف الحوار مع القوى المعتدلة والمستنيرة في المجتمعات الغربية عامة والمجتمع الأميركي خاصة، وأهمية إدماج الحركات الإسلامية في العملية الديمقراطية، وتمكين الحركات المعتدلة من حق الوجود السياسي إذا قبلت بالديمقراطية كخيار إستراتيجي، وأقرت بالمبادئ الأساسية التي تقوم عليها قيم المجتمع المدني والدولة المدنية الحديثة، وضرورة إجراء حوار عام موسع مع تيارات الإسلام السياسي السلمي».



غير أن أخطر توصية تبناها المؤتمر: دعوته إلى تنقية التراث الديني من الحديث النبوي الشريف، والاعتماد فقط على نصوص القرآن الكريم كمرجعية وحيدة، والتصدي لأفكار المؤسسات التي تحتكر الحديث باسم الدين وإيجاد مدرسة اجتهاد جديدة في القرن الحالي.



وقد قوبلت توصيات المؤتمر التي أعلنت في مؤتمر صحفي في نهايته باعتراضات عنيفة من الحضور وبعض الصحف المصرية، والتي أفاضت في ذكر الهجوم العنيف على منظم المؤتمر والمشاركين فيه، واتهامهم المباشر بالعمالة لأمريكا.



معظم ما سبق هو مقتطفات منسقة من مقالات نشرت في الفترة من 15/7 إلى 5/8/2004م، و 5/10/2004م، بجرائد الأهرام المصرية والنهار اللبنانية وملحق (وجهات نظر) من الاتحاد الإماراتية، للكاتب (السيد ياسين)، وهو كاتب غير متهم بالتطرف أو الأصولية، بل على العكس يصنفه كثيرون على أنه يقف في الخندق المواجه للتيار الإسلامي.



وبحسب الكاتب نفسه في المقالات نفسها: فإن الاهتمام بما أطلق عليه (الصحوة الإسلامية) أكاديمياً وبحثيّاً لم يكن وليد الساعة، ولكنه ظهر واضحاً عام 1979م عقب نجاح الثورة الإيرانية، بَيْدَ أن الأب الحقيقي للتيار الأكاديمي الأميركي الذي حاول بعمق شديد ونادر تأصيل الليبرالية الإسلامية، هو عالم السياسة الأميركي المعروف (ليونارد بايندر) في كتابه (الليبرالية الإسلامية: نقد للأيديولوجيات التنموية) الصادر عام 1988م عن دار نشر مطبعة جامعة شيكاغو.



ومن الأهمية بمكان في سبيل إيضاح الفكرة الجوهرية التي يقوم عليها تيار الليبرالية الإسلامية كما صاغ منطلقاته الباحثون في دراساتهم، أن نعتمد على ما قرره بايندر نفسه في شرحه لخطة كتابه، وهو يقول: «المحور الأساسي للكتاب هو دراسة العلاقة بين الليبرالية الإسلامية والليبرالية السياسية، وهو يضع في اعتباره الرأي الذي مؤداه أن العلمانية تنخفض معدلات قبولها، ومن المستبعد أن تصلح كأساس أيديولوجي لليبرالية السياسية في الشرق الأوسط، ويتساءل الكتاب عما إذا كان من الممكن بلورة ليبرالية إسلامية، ويخلص إلى أنه بغير تيار قوي لليبرالية الإسلامية فإن الليبرالية السياسية لن تنجح في الشرق الأوسط، بالرغم من ظهور دول بورجوازية».



وبعد أن يرصد (الأستاذ ياسين) بعض التطورات الفكرية والتحركات السياسية لبعض القوى الإسلامية، يقول:



وهكذا يمكن القول إن الاهتمام المبكر لعالم السياسة الأميركية (ليونارد بايندر) بالليبرالية الإسلامية منذ عام 1988م(1)، قد فتح باباً للاجتهاد الأميركي أدى من بعد - من خلال عملية تراكمية معرفية معقدة ـ إلى أن يُصدر عالم السياسة الأميركي (رايموند ويليام بيكر) عام 2003م كتاباً ملفتاً للنظر عن الإسلاميين المستقلين في مصر، عنوانه (إسلام بلا خوف: مصر والإسلاميون الجدد)، نشرته جامعة هارفارد، وقد خصصه لدراسة أفكار أربعة من الكتاب الإسلاميين المعروفين، وهم: (أحمد كمال أبو المجد)، و (طارق البشري)، و (فهمي هويدي)، ومحمد سليم العوَّا.. ويضيف كاتب المقالات نفسه إلى هؤلاء الأربعة: الشيخ يوسف القرضاوي.



بالطبع لا يعني ذلك أن محاولات أمريكا والغرب عموماً لـ (ليبرة) الإسلام بدأت منذ هذا التاريخ، فقد أشار كاتب إسلامي كبير في خمسينيات وستينيات القرن الميلادي الماضي إلى خطورة (الإسلام الأمريكي) الذي تحاول الولايات المتحدة إيجاد موطئ قدم له في العالم الإسلامي، وقد أشرت في مقالات سابقة إلى محاولات الغرب الدؤوبة لإيجاد إسلام (بروتستانتي) لا يثير العداء للغرب ولا يستفز المسلمين، خاصة الجهود التي بذلت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين(2).



ورغم الهجمة الأمريكية الشرسة والضغوط الغربية الهائلة التي تهدف إلى تمرير هذه المشروعات في عالمنا الإسلامي، فإني لم أجد جديداً أو غريباً في هذه المساعي، اللهم إلا في حجم التوجه ومقدار تكثيف الجهود في فترة زمنية محددة، ولكن الجديد حقاً كان في محيطنا الداخلي، وأعني به: ظهور فئة تنتسب إلى التيار الإسلامي (العامل) يَسِمُ أفرادها أنفسهم بأنهم (إسلاميون ليبراليون).



ويبدو أن ضغوط الواقع الاستبدادي التسلطي، وضيق ـ أو اختناق ـ مساحات الحريات، وشيوع مناخات الأحادية والمصادرة... جعل كثيراً من أفراد هذه الفئة يسترقون السمع لأي دعوى حرية، حتى ولو كانت نابتة خارج إطارنا الإسلامي، حتى ولو كانت باسم (الليبرالية). كنت أستغرب ـ ولا يُستغرب ـ أحدهم وهو ينعت نفسه بأنه (إسلامي ليبرالي)، وكأنه يصف نفسه بأنه مسلم (شافعي)، أو (مالكي)، أو حتى (شيعي)، أو كأنه ينسب نفسه بأنه (مسلم إندونيسي) أو (مسلم مغربي)، كان لا يستهجن ذلك، في حين كانت كلماته تقرع أذني وكأنها (إسلامي ماركسي) أو (إسلامي بوذي) أو (إسلامي علماني).



ومع استبعادي لعمالة هذا الشخص وأمثاله ـ أو حتى وعيه ـ للمشروع الأمريكي السابق ذكره، فإني على قناعة بأن أحدنا لا يفهم الإسلام، أو لا يفهم الليبرالية، أو لا يفهمهما معاً، هذا إذا كان هذا الشخص جاداً وصادقاً في كلامه.



وإذا كان المقام لا يتسع لعرض جميع أبعاد هذا الموضوع، فسأكتفي هنا بعرض وجهة نظري في الفرق بين الإسلام والليبرالية في أصولهما ومنطلقاتهما وما يترتب على ذلك من فروق على نطاق التصورات أو التطبيقات.



* الليبرالية والحريات.. الأصول والمنطلقات:



بداية فإنه لا يختلف أحد من الليبراليين (الأصوليين) على أن (الفكر الليبرالي) لا يقتصر على حقل الفكر السياسي، بل يمتد إلى ما هو أبعد منه، ليكوِّن فلسفة اجتماعية شاملة ترتبط بتوجهات محددة في مجالات الأخلاق وفلسفة العلم والقيم الاجتماعية والاقتصاد، إضافة إلى السياسة.



لقد لحق مفهوم الحرية ـ الذي ارتبط بالديمقراطية في المدن الإغريقية ـ تطور هائل من المدرسة الليبرالية، خصوصاً مع (جون لوك) في القرن السابع عشر؛ فالحرية في هذا المفهوم هي حرية الفرد، وهي الاعتراف له بمجال خاص لا يجوز التعدي عليه أو التدخل فيه؛ فالحرية هنا هي الاعتراف للفرد بحقوق طبيعية أو أساسية لا يجوز التعدي عليها ولو بموافقة الأكثرية: للفرد الحق في الحياة، في العقيدة، في التعبير، في الاجتماع، في الملكية، في التعاقد.. وهكذا لم يبق للحرية مفهوم إجرائي لاختيار الحكام، أو لأسلوب اتخاذ القرارات السياسية، بل أصبح للحرية مضمون حقوقي قانوني، هو الاعتراف بالحقوق الأساسية للإنسان باعتباره إنساناً.. وهذا هو المفهوم الليبرالي للحرية.



فعندما نتحدث عن الحرية فإننا قد نقصد أموراً مختلفة، ويمكن تلخيص هذه المفاهيم المتعددة تحت ثلاثة مفاهيم: هناك ما يمكن أن نطلق عليه (الحرية الجمهورية)، وهي تتطلب المشاركة في الحياة السياسية واختيار الحكام ومسؤولياتهم، وهي تقابل المفهوم المستقر للديمقراطية السياسية، وهذه تجد جذورها في الديمقراطيات الإغريقية أو ما يطلق عليه (كونستانت) الحرية بالمفهوم القديم.



وهناك من ناحية ثانية (الحرية الليبرالية) وهي تشير إلى الاعتراف بحقوق وحريات أساسية للأفراد لا يجوز الاعتداء عليها أو التعرض لها، وهي تقابل المفهوم الحديث للحرية عند (كونستانت) أو الحرية السلبية عند (برلين)، وهي أيضاً ما يقابل ما يعرف حديثاً بـ (حقوق الإنسان) الأساسية كما صدر عن منظمات الأمم المتحدة في وثائقها المتعددة.



وأخيراً هناك ما يمكن أن نطلق عليه (الحرية المثالية) أو الحريات الاقتصادية والاجتماعية؛ حيث يتعلق الأمر بضرورة تمكين الفرد من ممارسة حرياته، بتوفير حد أدنى من المستوى الاقتصادي وتقديم الخدمات الأساسية في التعليم والصحة والخدمات العامة»(1).



وإذا كان هذا الكلام يُظهر بعض الاختلاف في نظرة الليبراليين أنفسهم إلى (الحرية)، إلا أنه يوضح أننا لا نستطيع أن نفصل مسيرة الحريات الليبرالية عن مسيرة حقوق الإنسان في الغرب؛ إذ تتشابك وتتداخل المفاهيم في كليهما.



ينقسم الحديث عن الحقوق والحريات إلى شُعب عديدة: فهناك (حق المعرفة) و (حرية الإبداع) و (حرية الاعتقاد) و (حرية الرأي ) و (حرية التعبير)، و (حرية التعليم)، و (حرية الملكية)، و (الحرية الشخصيّة)، ويمكن أن يضاف إلى ذلك: (حق تكوين الأحزاب والتكتلات). وقد تنقسم بعض هذه الشعب إلى أقسام أو فروع متعددة، كما هو الحال بالنسبة للحرية الشخصيّة، التي تشمل: (حرية التنقل) و (حق الأمن) و(حرية المسكن)، ويعد بعض الباحثين (حرية الرأي) الأصل في هذه الشُّعَب والأقسام جميعاً، وليس من هدفنا في هذا المقال تناول هذه الحريات والحقوق تفصيلياً، بقدر ما يهمنا وضع إطار كلي نستطيع من خلاله فهم النسق الذي توضع فيه هذه الحريات والحقوق وكيفية فهم خريطة العلاقات بينها.



فمفهوم قيم (الحريات) و (حقوق الإنسان) اصطبغ بالخلفية الفكرية التي خرجت منها هذه الحقوق، وخضع للمنظومة القيمية العامة للمجتمع الذي نشأت فيه، وهو ما يختلف كلية عن الخلفية الإسلامية والمنظومة الإسلامية التي تحوي المفردات أو المصطلحات نفسها.



فمن المعروف أنه يختلف مفهوم كل مصطلح وطبيعة العلاقة بين القيمة التي يحملها وقيم المصطلحات الأخرى بحسب الإطار الفكري والفضاء القيمي الذي يسبح فيه هذا المصطلح، وعليه: لا نستطيع أن نختزل مفهوماً ما ونقتبسه من بيئته الفكرية والقيمية ثم نحاول إسقاطه على بيئة أخرى ومجتمع آخر له خلفيته الفكرية الخاصة ومنظومته القيمية المتمايزة.



من الملاحظ أن تبلور الليبرالية تزامن، في القرن السابع عشر الميلادي، مع ظهور الرأسمالية في أوروبا، عندما ظهرت حاجة الرأسماليين الصاعدين وقتها لإيجاد ذريعة أخلاقية وفكرية لحق تخزين الأموال الشخصية وكنزها، واعتقد المفكرون الليبراليون الأوائل بأنه لو خُلِّيَ العالم وسيره الطبيعي فإن المشكلات البشرية سوف تتجه تلقائياً نحو الحل، وأننا لو تركنا الأفراد يعملون وفق إرادتهم الخاصة، فإن ذلك سوف يحقق المساواة في المجتمع وكذلك الأخوة، ومن ثم: اعتقدوا أن عامة الناس يمكنهم اختيار الطريق المفضي إلى سعادتهم وراحتهم، وعليه: فلا تحتاج المسألة إلى افتراض تصور أو نظام يفرض عليهم من فوقهم، سواء من رجال الدين أو غيرهم؛ فالناس أنفسهم يمكنهم تعيين الحقوق والتكاليف التي يجب أن يستجيبوا لها بدون وجود سلطة عليا من خارجهم تفرض ذلك عليهم، وهذا ما تعرض للنقد حتى من مفكرين غربيين، كـ (تشارلز فرنكل) في كتابه (أزمة الإنسان الحديث)، ففي الحقيقة أن الغرب لم يلغِ المرجعية والسلطة بإطلاق، بل استبدل مرجعية بأخرى وسلطة بغيرها، بعد أن أزاح الدين عن ساحة التوجيه والتنظيم.



الغرب في نهضته استمد خلفيته الفكرية من الفكر الفلسفي اليوناني القائم على تقديس العقل - الذي أعلى من قيمته مرة أخرى مكتشفات عصر النهضة -، كما أن الغرب في نهضته كان خارجاً لتوه من سيطرة كنسية طاغية قائمة على تخلف علمي واستدلالي يورد الفيلسوف (فرانسيس بيكون) نموذجاً لها، فيقول: «وقع بحث ونقاش سنة 1432م، في مجمع من المجامع العلمية، حول عدد أسنان الحصان. لقد جرى التفتيش عن الإجابة عن هذا الموضوع في آثار العلماء السابقين، بيدَ أن ذلك لم يقدم أي نتيجة، وبعد أربعة عشر يوماً من التحقيق أبدى أحد الطلاب رأيه بالنظر إلى فم الحصان وعد أسنانه، لكن هذا الاقتراح تم التعاطي معه على أنه كفر، وأن قائله مستوجب للتأديب الشديد، وفي نهاية المطاف، وبعد عدة أيام من البحث والجدال، أعلن المركز العلمي عدم قابلية هذه المسألة للحل؛ نظراً لعدم ورودها في كتب القدماء، فأحس الغرب بأهمية الاستدلال العقلي وبتعطشه للتجربة الحسية التي حرمته منها الكنيسة، مهدراً أي طريق آخر للمرجعية المعرفية، وأصبح إثبات الحقائق أو نفيها مرهوناً بوقوع هذه الحقائق في دائرة نشاطاتنا العقلية وتجاربنا الحسية، وهذا معناه أنه لا يجوز الاعتراف بأي شيء اعترافاً مسبقاً؛ فكل شيء قابل للتجربة أو للتجزئة والتحليل العقلانيين.



وهذا ما أثر على نظرة الغرب إلى (الدين) و (الغيبيات) وتصوراته عن الكون والإنسان والحياة عموماً؛ حيث إن الدين والغيبيات لا يمكن للعقل المجرد إدراك مسائلهما، وعليه: فهي نسبية وغير يقينية ولا يستطيع أحد الزعم بأحقية تصوره وإبطال تصور الآخرين، ولذا: فهي متروكة لاعتقاد كل فرد، ومن ثَم: ينبغي على كل إنسان أن يفسح المجال لاعتقادات الآخرين وأن يتسامح معهم في معتقداتهم؛ لأنها ببساطة متساوية مع اعتقاداته في نسبتها إلى الحقيقة، أو بالأحرى: في افتقارها إلى الحقيقة. وعندما صادروا الدين والغيبيات من دائرة العقل والحواس فإنهم وضعوهما في دائرة العواطف والضمير الإنساني، وهي الدائرة التي لا ينبغي لأحد أن يتدخل فيها أو يصادرها، وفي أقصى الافتراضات: فهي عاطفة تقوم على الإقناع وليس على الإلزام.. كما أثر ذلك على نظرة الغرب إلى كيفية بحث الإنسان عن أهدافه وغاياته وعن طرق الوصول إلى تحقيق هذه الأهداف والغايات.. كما أثر ذلك أيضاً في النظرة إلى الأخلاق، حيث لا توجد أخلاق مقدسة أو مؤبدة أو مطلقة؛ فالحُسن والسوء ليسا مطلقين ولا كليين، كما أن تحديد الخير والشر والحسن والقبح يختلف من إنسان إلى آخر، ومن ثَم: لا ينبغي أن تُفرض هذه الأخلاق من سلطة عليا أيّاً كانت. وإذا كان الأمر كذلك فإن السلوك الإنساني سيتحدد من خلال الرغبات والميول البشرية، وعندها سيكون الحَسَن هو ما يحبه الأفراد أنفسهم ويرغبون فيه، والقبيح والسيئ هو ما ينفر منه هؤلاء الأفراد ويتعارض مع الرغبات الإنسانية.



لم يكن هذا هو التأثير السلبي الوحيد للكنيسة على منظومة الغرب في حقوق الإنسان وحرياته؛ فلقد أدت نظرة الكنيسة إلى الإنسان على أنه يحمل خطيئة أبدية ورثها من أبيه آدم، أي: إنه مذنب بالأصالة حتى يخلصه المسيح، أدى ذلك إلى رد فعل عكسي عند الليبراليين تمثل في تمحورهم حول الإنسان، فهو البداية وهو النهاية وهو الغاية. وإذا نظرنا إلى هذا الإنسان وفق المنظور العقلي والحسي فإنه يتجرد من (الروح) ولا يبقى منه إلا الأبعاد الذاتية والنفعية، أي: الغرائز والشهوات والماديات.



والخلاصة: أن الغرب لم يُخرج تصوراته عن منظومته في حقوق الإنسان وحرياته - في الربع الأخير من القرن الثامن عشر - إلا بعد قطيعة حادة مع الدين ممثلاً في الكنيسة الكاثوليكية - التي أذعنت في النهاية لهذه القطيعة رافعة شعار (دعوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله) - ثم تجسدت هذه القطيعة في أكبر تجلياتها على أرض الواقع عبر الثورة الفرنسية عام 1789م بشعارها الماسوني المثلث (حرية - مساواة - إخاء)، وهو الشعار الذي يعد أصل كافة حقوق الإنسان في المنظور الغربي، تأسيساً على أنها حقوق عامة تشمل جميع الأفراد بموجب (الحق الطبيعي) الذي يسبق جميع الثقافات والحضارات - حسب هذا الفكر - وعليه: صدر في العام نفسه (إعلان حقوق الإنسان والمواطن).



فواضح أن المرجعية في الغرب ـ بعد انقطاعه عن الكنيسة في مجالات الحياة ـ تحولت إلى العقل إضافة إلى الحس التجريبي، ومن هذه المرجعية انبثقت هذه الحقوق والحريات، مع مراعاة البعد الاقتصادي في تطور المجتمع الغربي آنذاك، وواضح أيضاً أن المنهجية التي تأسست عليها هذه الحقوق والحريات هي العلمانية.



وإذا رصدنا ترتيب الهرم القيمي الذي استقر عليه الغرب بناءً على هذه المرجعية وهذه المنهجية نجد أن (الحرية) و (المساواة) تتبوآن قمة هذا الهرم، وعليه: فتحقيق هاتين القيمتين - حسب المفهوم المستقر لديهم - له الأولوية المطلقة التي ينبغي أن تخضع له، أو تتقيد به، أو تنتظم معه قيم المجتمع الأخرى، ومن هنا: أصبحت (الحرية) و(المساواة) على رأس (الثوابت) و(المقدسات) التي لا يمكن المساس بهما، والتي يمكن - أيضاً - التضحية بالقيم الأخرى والحقوق الأخرى من أجل المحافظة عليهما.



وعلى هــذا الأسـاس انتظـمت (الحقوق) و (الحريات) و (العلاقات). ففي العلاقات بين الأفراد نجد أن (حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين)، وفي العلاقة بين الفرد والمجتمع برزت نظرية (العقد الاجتماعي) التي نضجت قبيل الثورة الفرنسية في فكر (جان جاك روسو)، والتي بمقتضاها يتنازل كل فرد في المجتمع عن بعض إطلاقات حقوقه وحرياته للجماعة التي ينتمي إليها، والتي تجسدها الدولة، مقابل (تنظيم) هذه الدولة لممارسة تلك الحقوق والحريات بين جميع الأفراد وحمايتها لها، وهكذا تحولت هذه الحقوق والحريات (الطبيعية) إلى حقوق (مدنية) لا يسمح بالخروج عليها؛ حيث تحميها سلطة المجتمع (الدولة)، وهو الأساس الذي قامت عليه الدولة الحديثة في الغرب.



وبانتشار الفلسفة التحررية (الليبرالية) واستقرارها في غرب أوروبا في القرن التاسع عشر.. أخذت الحريات والحقوق الفردية بُعداً جديداً، عندما أصبحت هذه الفلسفة هي الأساس النظري للتنظيم السياسي والاقتصادي والقانوني للمجتمعات الغربية، فنادت الليبرالية - في الفكر السياسي - بالوقوف ضد كل أشكال التمييز الاجتماعي أو القانوني بين البشر (مساواة)، وطالبت بإطلاق كل الحريات لكل الناس (حرية)، ولكن في حدود قانون واحد يحكمهم ويحتكمون إليه دون تمييز، أو بتعبير الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: «من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان لكي لا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم»، فأصبح القانون هو الذي يجسد حقوق الإنسان في نهاية الأمر - حسب الرؤية الغربية - كما نادت الليبرالية بأقل قدر ممكن من القيود التي قد يفرضها المجتمع على تصرفات الأفراد (فردية منهجية).



وتوج ذلك بإصدار الغرب، المنتصر عام 1948م والمتأثر بما أشيع عن حجم المذابح التي تعرض لها اليهود في هذه الحرب، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بموافقة 48 دولة وامتناع 8 دول عن التصويت - معظمها من دول ما كان يسمى بالكتلة الاشتراكية، ثم تلاه مواثيق وعهود دولية متعددة لحقوق الإنسان، وقد جاء هذا الإعلان مهملاً لقيم لا يزنها الغرب بميزان الحقوق (حق الارتباط الأسري، حق الجوار، حق المسافر «ابن السبيل».. إلخ)، وفي الوقت نفسه: مارس - وما يزال - فرض وجهة نظره في هذه الحقوق على المجتمعات الضعيفة بلا أدنى مراعاة لحرية الاختيار وحق الاختلاف، حيث يرى الغرب في كل زمن وصوله إلى مرحلة النضج والكمال في هذا الزمن، ويرى تخلف غيره من المجتمعات، ويرى أن عليه رسالة سامية، هي (تحضير) هذه المجتمعات المتخلفة بفرض رؤيته (الحضارية) عليها.



وهكذا نرى أن ملامح الإطار الفكري والفضاء القيمي الذي خرجت منه الحريات والحقوق في الغرب تتمثل في أن:



1 - العقل المجرد هو مرجعية هذا الحقوق والحريات، حتى وإن اقتبس هذا العقل بعض قيم الدين ـ كما في تأثر الليبرالية بالبروتستانتية ـ فإن العقل المجرد يبقى هو الحاكم على هذه القيم بالرفض والقبول.



2 - العلمانية (فصل الدين عن الحياة وعن الدولة) هي المنهجية التي تنتظم فيها هذه الحقوق والحريات.



3 - (الحرية) و (المساواة) هما أعلى قيم المجتمع التي تخضع لها وتنتظم معها قيم المجتمع الأخرى، فهما (ثوابت) و (مقدسات) لا يمكن المساس بهما.



4 - إعلاء قيمة (الفرد) ومصالحه مقابل تقليص دور المجتمع ومصالحه.



وعلى هذه الأسس نستطيع رد الأحداث الجزئية إلى أصولها وتفسيرها تفسيراً منطقياً:



ففي الغرب يحق لأي شخص اعتناق الدين الذي يروق له سواء أكان سماوياً أو غير سماوي أو أن يكون ملحداً أو أن يغير دينه (انظر: المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)؛ لأن ذلك يدخل في إطار حق (حرية الاعتقاد)، وهو حق (شخصي / فردي) لا يجوز التدخل فيه. وواضح هنا أن تصور (الاعتقاد، أو الدين) جاء منسجماً مع النظرة العلمانية الغربية للدين التي تفصل بين الدين والحياة؛ فالدين عندهم لا علاقة له بالعقل ـ أي: لا يوزن بمعيار الصحة والخطأ ـ أو بنظام المجتمع، ولكنه عاطفة أو ضمير يكنه الشخص داخل نفسه فقط.



وعلى ذلك: فلو أن شخصاً ما كان من دينه الذي (يعتقده) إباحة تعدد الزوجات مثلاً وأراد ممارسة ذلك فإن الدولة تتدخل لـ (تقييد) هذه الحرية وتمنعه من ذلك؛ لأن تلك الممارسة خارجة عن حقه في (حرية الاعتقاد)؛ إذ إنها خرجت عن إطار (العاطفة والضمير الشخصي)، ولأن في ذلك خرقاً للقانون وللعقد الاجتماعي وللنظام الذي ارتضاه معظم الأفراد (فصل الدين عن الحياة)، ولأن فيه تعدياً على حقوق أفراد آخرين (المرأة، حتى ولو كانت راضية) حسب زعمهم، ولكن في الوقت نفسه: يباح لهذا الشخص معاشرة نساء أخريات خارج إطار الزوجية، ما دام ذلك يتم برضاهن ـ حتى لو كان ذلك مخالفاً لدينه الذي ينتسب إليه - لأن في ذلك إشباعاً لحاجات غريزية يمارسها أفراد بمقتضى (حريتهم) الشخصية التي لم يقيدها القانون؛ فالمسلم في هذه البلاد يستطيع أن (يعتقد) و (يعبر) بحرية عما يعتقد ـ وذلك افتراضاً؛ فتداعيات أحداث سبتمبر كشفت قشرة التجمل الديمقراطية ـ ولكنه لا يستطيع أن يمارس بالحرية نفسها تطبيق ما يعتقده ويعبر عنه (تأمل أيضاً قضية حجاب الفتيات المسلمات في فرنسا، ومنع الذبح الشرعي في أكثر من دولة أوروبية، ومصادرة كتب إسلامية لأكثر من كاتب في أحد معارض الكتب بباريس «عاصمة النور!»، وتأمل معها في الوقت نفسه: الموقف من سلمان رشدي وأمثاله).



وفي الغرب رُفعت قضايا عديدة ضد أكثر من مفكر وكاتب ومؤرخ لمجــرد أنه (عبــر عن رأيه) بالتشكــيك في محارق النــازية لليهــود (الهولوكــست) نفياً لوجودها أو تقليلاً من عدد ضحاياها، وقد كانت حجج اليهود أن في ذلك معاداة للسامية، وهي عنصرية تعمل على إشاعة الكراهية ومضادة (الإخـاء) و (المسـاواة)، وهي (ثوابت) و (مقدسات) في المجتمع الغربي، يجب المحافظة عليها حتى ولو اقتضى ذلك تقييد (حرية الرأي) ومصادرة (حرية التعبير) لأفراد مفكرين، يمكن أن يكون مآلهم السجن (عكس الحرية تماماً) أو الحكم بالغرامة المالية، بـدلاً من تشـجيعهم عـلى البــحث الحــر والرأي الحر.



في الغرب يقوم نظام الحكم على الديمقراطية (وهي من أكبر عمليات النصب الفكري في التاريخ، ولهذا حديث آخر) التي قوامها القبول بالتعددية، وضماناً لإعمال هذا المبدأ تقوم أنظمة الحكم الغربية بإطلاق (حرية تكوين الأحزاب السياسية والتكتلات) ومع ذلك نجد أن بعض هذه الدول تشترط عدم خروج الأحزاب على بعض المبادئ الأساسية في المجتمع (تقييد هذا الحق وتوجيهه) فلا تسمح بقيام حزب جمهوري في بلد ملكي، أو قيام حزب ملكي في بلد جمهوري، أو قيام حزب انفصالي في بلد اتحادي، أو قيام حزب شيوعي في بلد رأسمالي (كما في أمريكا مثلاً)، أو قيام حزب نازي أو فاشي في بلد ليبرالي - وخاصة ألمانيا وإيطاليا - ولو حدث اختراق لبعض هذه الشروط والقيود تحت مسميات ومظلات أخرى فإن العقوبات تكون بالمرصاد لهذا الاتجاه ولزعيمه ولبلده، وحالة حزب الحرية (القومي النمساوي) وزعيمه (يورج هايدر) ليست ببعيدة.



وأسباب ذلك التقييد والتضييق قريبة من الأسباب المذكورة في النقطة السابقة.



وباختصار: ماذا لو خرج في الغرب ـ مِن منطلق الحريات ـ مَن يطالب بهدم (ثابت) الحرية (المقدسة) وإسقاطه؟ الرد الفوري الجاهز من أنصار الحرية سيكون الشعار المعروف: (لا حرية لأعداء الحرية) بدعوى أن هؤلاء (سيستخدمون الحرية لقتل الحرية).



وبالطبع فإنهم لا يعدون هذه القيود انتقاصاً للحقوق والحريات، بل يعدونها حماية لهذه المكتسبات التي أصبحت ثوابت (مقدسة) وضبطاً لها؛ حتى لا تتحول إلى فوضى يضيع معها نظام المجتمع.



* الحريات في الإسلام بين الحق والضبط:



وفي مقابل المنظومة الغربية في الفكر والقيم نجد في الإسلام و (المجتمع الإسلامي) منظومة مختلفة تماماً: مختلفة في المرجعية والمنهجية، وفي الثوابت والمقدسات، وفي الغايات والأهداف، وحتى في الوسائل والأدوات القانونية والاقتصادية والسياسية لتحقيق هذه الغايات.



فمقابل (العقل المجرد) و (الحس التجريبي) نجد في الإسلام أن (الوحي) هو المرجعية الأولى للفكر والقيم، مع عدم إهمال أهمية المرجعية المعرفية للعقل والحس، ولكن وضعهما في إطارهما واستعمالهما في مجالاتهما.



ومقابل (العلمانية) نجد في الإسلام أن (الشريعة) وانتظام الدين مع الدنيا هو المنهجية التي يقوم عليها المجتمع.



ومقابل (الفردية) نجد في الإسلام المسؤولية المتبادلة بين الفرد والمجتمع والتآلف بينهما من غير جور أو تعدي أي منهما على الآخر (حقوق شخصية، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر)، وهو ما يؤكده حديث السفينة التي استهمها ركابها، وهذا المفهوم يرقى بحريتي الرأي والتعبير ـ وفق التصور الإسلامي ـ من مرتبة (الحق الشخصي) إلى مرتبة (المسؤولية الاجتماعية).



ومقابل (الحرية) و (المساواة) نجد في الإسلام أن (العبودية) لله رب العالمين و (العدل) بين البشر (ليس بالضرورة أن يكون العدل هو المساواة كما يفهمها بعض البشر) يتربعان على قمة الهرم القيمي في المجتمع الإسلامي، فهما أكبر (الثوابت) و (المقدسات) في المجتمع، وتحقيق هاتين القيمتين وعدم المساس بهما له الأولوية المطلقة التي ينبغي أن تخضع له أو تتقيد به أو تنتظم معه قيم المجتمع الأخرى بما فيها الحقوق والحريات.



وأعني بـ (العبودية) لله ـ عز وجل ـ: الخضوع والدينونة العامة له (سبحانه)، {وَمَا خَلَقْتُ الْـجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْـحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، وفي هذا الإطار نلاحظ أن تحقيق (العبودية) لله ـ عز وجل ـ يتناسب طردياً مع (التحرر) من المخلوقات؛ فكلما عظمت حقيقة العبودية لله ـ تعالى ـ وارتفعت في نفس المسلم، كلما ازداد تحرره من المخلوقين. كما نلاحظ أن هذا التحرر يكون داخلياً وخارجيّاً؛ فالعبودية لله ـ سبحانه ـ تجعل المسلم يتحرر حتى من سيطرة (الأشياء) والتعلق بها؛ «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أُعطي رضي وإن لم يُعْطَ لم يرضَ»(1). وتأمل موقف سلطان العلماء (العز بن عبد السلام) عندما أغلظ في القول جهراً مناصحة للملك الصالح نجم الدين أيوب، لما رأى الأمراء يقبِّلون الأرض بين يديه. يقول تلميذه الباجي: «سألت الشيخ لمَّا جاء من عند السلطان ـ وقد شاع هذا الخبر ـ: يا سيدي! كيف الحال؟ فقال: يا بني! رأيته في تلك العظمة فأردت أن أهينه؛ لئلا تكبر نفسه فتؤذيه، فقلت: يا سيدي! أما خِفتَه؟ فقال: والله! يا بني! استحضرتُ هيبة الله ـ تعالى ـ فصار السلطان قدامي كالقط».



أما (العدل) فإنه من أبرز خصائص هذه الأمة {وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15]، {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، والوسط هو العدل - كما جاء في تفسيرها-.



وضمن هذا الإطار تنتظم (الحقوق) و (الحريات) الشخصية، وليعذرني القارئ في استعراض بعض هذه الحقوق والحريات حسب شكل الإطار الغربي:



فـ (حق المعرفة) مكفول في الإسلام، ولكن تحت ظروف معينة جاز تضييقه بعض الشيء لأجل الارتقاء بمستوى (العبودية) والمحافظة عليها، كما في حديث معاذ عندما أخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن «ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرَّمه الله على النار»، فقال معاذ: «يا رسول الله! أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا؟»، قال: «إذن يتكلوا»(1)، وهو ما يسميه العلماء: جواز كتم العلم للمصلحة.



و (حرية العقيدة) في المجتمع الإسلامي مكفولة (في إطار) مراعاة الثابت الأعلى لهذا المجتمع (العبودية والدينونة لله عز وجل)، ومن هنا اتسع المجتمع الإسلامي لوجود التعدد الديني فيه، عندما قَبِلَ أن يتعايش فيه أفراد يعتنقون اليهودية والنصرانية - وقد يلحق بهما المجوس كما جاء في بعض الروايات، باعتبار أن لهم شبهة كتاب - وترك لهم حرية تنظيم شؤونهم الشخصية، بينما لم يتسع لغيرهما من الديانات الوثنية أو الإلحاد، وذلك باعتبار أن اليهودية والنصرانية ديانتان ذواتا أصل سماوي ويعلنان انتسابهما إلى مظلة تلك العبودية والدينونة في الجملة؛ فالقاعدة في ذلك: قبول المجتمع الإسلامي أن ينضوي تحت مظلته كل من يعلن قبوله لسلطان الله عليه في الجملة، ونبذه لكل من يعلن تمرده وخروجه على هذا السلطان.



ولكن الانحراف والتحريف الطارئ على تلكما الديانتين - والذي يتصادم مع حقيقة (ثابت) العبودية - يجعل دائرة (حرية التعبير) أضيق في حقهما من دائرة (حرية الاعتقاد)، فلا يحق لهما الدعوة - أو التبشير ـ بدينهما، ولا إظهار شعائر عباداتهما ـ المعبرة عن انحرافهما ـ خارج دائرة معتنقيهما. فخروج (حرية التعبير) عن هذه الدائرة يخرق نظام المجتمع ويهدم الثابت الأساس والمقدس الأول في الهرم القيمي للمجتمع. وهنا يضاف ـ في حق هؤلاء ـ إلى قبول سلطان الله: قبول شريعة الإسلام باعتبارهما المرجعية والنظام اللذين يقوم عليهما المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية.



ويتعلق بـ (حرية الاعتقاد) مسألة المرتد عن الإسلام: ففي حين أن الإسلام لا يعاقب من لم يدخل فيه ابتداء، كما أنه لا يُكره أحداً على اعتناقه والدخول فيه، {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، {وَقُلِ الْـحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]، كما لا يمنع ولا يعاقب من انتقل من دين إلى آخر أو من مذهب عقدي في هذه الأديان (التي تعيش في ظله) إلى آخر - وفي ذلك خلاف فقهي ضعيف -.. نجد أنه في الوقت نفسه يمنع و (يعاقب) من ينتقل منه إلى غيره، ولا ينفع في هذا المقام محاولات بعض المتكلفين إبراز آراء فقهية شاذة تنفي عقوبة القتل عن المرتد، بغية التطابق مع المفهوم الغربي لـ (حرية الاعتقاد) لأن التهديد والوعيد الأخروي الثابت في القرآن {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] يأبى إضفاء شرعية هذه الصفة (حرية الاعتقاد) لهذه الفعلة (الردة عن الإسلام) في المجتمع المسلم، وبحسب المفهوم الليبرالي الذي يتمحلون في موافقته؛ فإن ذلك الوعيد يعد ترهيباً معنويّاً لا يتفق مع الدعوة إلى حرية الاعتقاد.



ونستطيع فهم موقف الإسلام من المرتد عنه، في ضوء أن ذلك الانتقال عنه يعد طعناً في القيمة العليا والأساس التي يقوم عليها المجتمع، أو بعبارة أخرى: إنه يعد ذلك إعلاناً بالطعن في صحة هذا الدين، أو في عدم حاجة الإنسان إليه، وذلك غير مقبول في مجتمع يستمد شرعيته ومرجعيته بالأساس من اعتقاد صحة هذا الدين ومن الحاجة إليه.



ولا يقتصر (التضييق) على (حرية التعبير) على أهل الكتاب والمرتدين فقط، بل يشمل كل متطاول وطاعن في ثوابت المجتمع ومقدساته، سواء أكان منتسباً إلى الإسلام أم غير منتسب، بل إن ذلك الطعن من سمات (الإمامة في الكفر) كما في قوله ـ تعالى ـ: {وَإن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12]، وبالطبع فإن بعض المنتسبين إلى المنظومة الغربية قد يعدون الطعن في الدين (حرية إبداع) و (حرية رأي) و (حرية تعبير).



ولكننا نرى أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يعتدَّ بـ (إبداع) ولا (حرية تعبير) اليهودي كعب بن الأشرف عندما شن حملة إعلامية (شعرية) هجا فيها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وآذاه، كما لم يأبه القرآن الكريم ولا الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا مجتمع الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ بـ (حرية الرأي) عندما أبدى بعض المنافقين - في سياق التهكم والسخرية بدعوى التسلية واللعب - رأيهم في (قرَّاء) الصحابة (أي: فقهاؤهم وعُبَّادهم) بأنهم أرغب بطوناً وأكذب ألسنة وأجبن عند اللقاء(1)، وهو ما عده القرآن استهزاءً بالله وآياته ورسوله، استلزم أن يكون كفراً بعد إيمان لا يقبل فيه الاعتذار باللعب؛ فما بالنا بمن يهزأ صراحة ويعلن جديته في ذلك؟



وهنا نقطة يرددها كثيرون بدعوى أنها دليل على السماح بحرية الرأي المتضمن لنشر آراء كفرية في المجتمع الإسلامي... حيث يدعي بعض الكتاب أنه في مسألة مثل مسألة التعرض إلى الذات الإلهية وإنكار وجودها ابتداءً، نجد أن القرآن الكريم أورد وحفظ ما يصعب حصره من دعاوى غير المسلمين وآرائهم ومقولاتهم واتهاماتهم أياً كانوا في هذا الباب.



هذا الكلام وأمثاله يحمل في طياته خلطاً كبيراً بين مفهوم (حرية التعبير) الذي يستدلون له، ومفهوم (الحوار والجدل) الذي وردت في سياقه الآيات والآراء والمقولات التي أشاروا إليها. والحقيقة أن بين المفهومين فرقاً كبيراً؛ فحرية التعبير تقتضي ترك صاحب الرأي يعرض وجهة نظره وحججه بدون أي تعقيب أو تعليق مباشر، وقد لا يوجد تعقيب بالمرة، وهذا ما لم يحدث في القرآن ولا في غيره من المرجعيات الإسلامية؛ بينما الحوار والجدل عملية إلقاء حجة على حجة ورأي على رأي لإظهار الحق؛ ففي هذا المقام نلحظ أن إيراد القرآن لأقوال أهل الشرك والكفر لم يكن بقوة الحق الممنوح لهم (حرية التعبير)، بل كان بقوة الفعل الذي صدر منهم وأصبح واقعاً لا يمكن تجاهله، فأوردها في محاورات ومجادلات غاية في الدقة والأمانة والرقي، ونلحظ أيضاً أن (الحوار والمجادلة) بهذه الصورة يعد من أوسع الممارسات الفكرية في الحقل الإسلامي.



ورغم هذا (التضييق) على حرية الرأي وحرية التعبير (الرأي يكون سابقاً للتعبير عنه) إذا تصادم هذا الرأي أو التعبير مع ثوابت المجتمع ومقدساته وأخلَّ بنظام الهرم القيمي فيه.. نرى في الوقت نفسه تسامحاً ومرونة واتساعاً في (حرية الرأي) و (حرية التعبير) حتى لو صدر من غير المسلم - وحتى لو كان هذا الرأي خاطئاً ومخالفاً لما هو راسخ، بل لو كان يحمل شبهة التطاول الضمني - وذلك إذا كان مستظلاً بمظلة ثوابت المجتمع ومقدساته: فهذا يهودي آخر يتقاضى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مالاً فيجبذه من منكبه ويقول له: «إنكم يا بني عبد المطلب أصحاب مطل وإني بكم لعارف» ويرد الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما انتهر عمرُ اليهوديَّ، فيقول له: «يا عمر! أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج: أن تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي»(2)، وهذا رائد الخوارج يقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- - بعدما قسّم بعض مال في المؤلفة قلوبهم -: «يا رسول الله! اتق الله!» أو «يا رسول الله! اعدل!»(3)؛ ففي هذه المواقف آراء تحمل شبهة تطاول ضمني على شخص الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولكن هذا التطاول ليس على مقام النبوة والرسالة، ومن حق الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يعفو ويتنازل عن حقه الشخصي، وإن لم يكن من حق أمته التنازل عن هذا الحق. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن هذه الآراء كانت مستظلة بمظلة ثوابت المجتمع (العدل في الحالة الأولى، والعدل والعبودية لله ـ تعالى ـ في الحالة الثانية) ولذلك كان تذكير الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتصحيحه بأنه هو أول من يتمثل هذه الثوابت ويحميها: «ومن يعدل إن لم أعدل؟»، «أوَلست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟».



وتتسع هذه الحريات (حرية الرأي وحرية التعبير) كلما تأكد استظلالها بمظلة هذه الثوابت، حتى ولو أدت إلى (اختلاف) و (تنوع) و (تعدد)، وفي اختلاف الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ومَنْ بعدهم من مدارس فقهية ومناهج كلامية ما يتعذر حصره في هذا الصدد.



وهنا نقطة جديرة بالذكر، وهي: أن التاريخ يشهد بأن مساحة (التنوع) و (حرية الرأي الآخر) و (حرية التعبير) كانت دائماً في أقصى مداها في ظل السيادة الثقافية والسياسية لأهل السنة والجماعة، بينما كانت هذه المساحة تتقلص دائماً - وأحياناً إلى حد الاختناق - مع تملك الفرق الأخرى لأزِمَّة الأمور، ومحنة خلق القرآن التي أراد فيها المعتزلة (أهل العقل) امتحان الأمة وحملها فرداً فرداً على اعتناق رأيها في هذه المسألة العقدية.. خير شاهد على ذلك.



وعلى النسق نفسه ينتظم حق تكوين الأحزاب والتكتلات؛ فمانعو الزكاة وأتباع مسيلمة الكذاب كوَّنوا تكتلات بناءً على (آراء) تبنوها، ولكن لما كانت هذه الآراء مصادمة لثوابت المجتمع ومقدساته لم يكن لها مكان في هذا المجتمع؛ فكان الصدام معها والقضاء عليها واستئصال آرائها، بخلاف الخوارج الذين تكتلوا على (رأي) أيضاً؛ فلم يقاتَلوا ابتداءً، بل لم يقاتلوا إلا عندما نابذوا الدولة الإسلامية بالقتال، فقوتلوا على جريمتهم السياسية وليس على آرائهم، واستمرت آراؤهم سيارة بعد ذلك في أتباع مذهبهم، يشملهم الانتساب إلى عموم الأمة بمصطلح (أهل القبلة)، وكذلك التكتلات الفكرية الأخرى، بل والتكتلات الاجتماعية كالقبائل، بل كالمهاجرين والأنصار، وهي تكتلات كانت مكونة تحت لواء (انتماء) وليس تحت راية (ولاء) الذي ظل دوماً معقوداً للقيم والمقدسات العليا في المجتمع الإسلامي.



فهل بعد ذلك يمكن القول إن الإسلام يدعو إلى الحريات والحقوق كما تدعو إليها الليبرالية، ويمكن الجمع بينهما بلا غضاضة؟.. أم أن إضافة الليبرالية إلى الإسلام ليست إضافة بيان أو ترادف، بل لإكمال نقص وسد خَلة في الإسلام؟



نبرئ إخواننا أن يكون ذلك قولهم..